هؤلاءٍ أمّتِي وإليهِم أنتمي

دين هو دين الله هو الإسلام و هو شرطه على الناس أن يسالم بعضهم بعضا ، فليس هناك دين إسمه المسيحية و لا اليهودية. فالمسيح دينه الإسلام و موسى دينه الإسلام وأتباع اي نبي من الأنبياء قد يكونوا مسلمين و قد يكونوا ممن يرفع الشعارات و لا علاقة لهم برسالة الأنبياء التي هي واحدة.
رسالة السماء لأهل الأرض لم تتعدد و لم تختلف ، فالدين واحد و الرسالة واحدة
النبي الكريم محمد امتداد لعائلته الكبيرة، عائلة الأنبياء الذين هم مثل الإنسانية العليا بصدقهم و جهادهم لتحرير الإنسان من العبودية للأشياء و الناس و الوقوف مع المستضعفين ، هؤلاء أمّتي و إليهم أنتمي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجمعة، 30 أكتوبر 2009

كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا



هل عرقك عربي ؟؟؟؟

لو تعرفون كم مجدت هذا العرق ، كنت ساذجا حتى أنفقت الكثير من الأموال لشراء تلك الكُتب المُزخرفة من قبل شياطين فرق تسد ، لأكتشف وقبل أن أدخل في الموضوع ان هؤلاء العرب الذين امجّدهم ينقسمون الى عرب عاربه واخرى مستعربه ، وبعد ذلك تجد نفسك أمام شجرة العائلة التي تعود بجذورها الى ما قبل طور ءادم في الجاهلية الأولى ليترسّخ في فكرك مجد غائر في الزيف وغصن من فروعها يّلوح بإسمك في ورقة خضراء ويُحيط بك أقاربك في غصن الشجرة الزيتونية غير المباركه ، الخالية من الزيت والدسم الفكري والمعرفي ، والحقيقة وبعد إنعتاقي من الصّلب على تلك الشجرة وجدت الناس من نفس واحدة فلا وجود لفصيلة دم تُشير الى عرق بشري محدد يختلف عن باقي الناس ذرّية بعضها من بعض ، أما اللغة فشئ مُكتسب يصطلح عليها الناس اي ناس ليسيّروا أمور حياتهم كما نرى العالم حولنا ...هكذا يُشيرالقرءان العربي ..... المهم قوله الحق
" مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا (ج)بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمـِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِئايَاتِ اللَّهِ (ج) وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ " الجمعة:5

تكونت هناك امّه وانتظرت شروطا موضوعية للمخاض ثم جاءت رسالة تحفظ الوجود و ترسم الهدف و لكن بدل أن يصبح المجتمع رساليا بتفاعله مع ءايات الكتاب و أن يقود ، تحوّل إلى ما يشبه الحمار ينعق شعارات و لا يدري ما يحمل بل إنّه يجعل الأخر ممن لم يعرف الرسول يفرّ و لا يقترب من الرسول ، فالمجتمع الذي شبّه سيره بالحمار لم يُفلح في تحويل ءايات الرسالة إلى هدى لمعرفة الكتاب بل تجاوزها ظلما ليُعلن أنّه الوحيد الذي توّجه لمخاطبته الرسول و أنّه المختار المصطفى و لم يدر أنّّه حُمّل الرسالة أي حمل واجبا ثقيلا ليوصله للناس و لكنّه عجز وركن الى الارض لأنّه لم يحمل الرسالة بل وأصبح عائقا أمام الأخرين.
لقد أتت التوراة لقوم كان عليهم ان يحملوها فإذا بهم يجعلونها شعارا لتهوّدهم و شعارا لإصطفاءهم من دون الناس و قد اصبحوا بهذه الشعارات أرذل الخلق يختفون بالتآمر و يتحركون بالدسيسة و غارت فيهم الأمراض النفسية حتّى لم يعودوا في ميدان الفاعليه الرساليّة إلاّ كالحمارالذي يحمل الأسفار لمن يحسن القراءة ، هذا إن فعلوا ، و هذا نفسه ينطبق على "الذين حمّلوا القرءان ثم لم يحملوه" فالأيات تُخاطب من يقرأ القرءان كي لا يقع في هذا الوصف الشنيع و يزعم لنفسه بحكم العادة انه المصطفى للحمل ، وهو في الواقع لا يتحمل أعباء هذا الحمل ، و يفر الناس عن الرسول لرؤيتهم عجز من يرفع شعارات الولاية و هو عاجز بائس يُقاد و لا يقود ، و القرءان يخاطب هؤلاء جميعا "شعب الله المختار" و "الفرقة الناجية" و "مستحقي الشفاعة" بمنطق بسيط ليفهم الناس كلّهم منطق الرسالة الروحي :

"قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْـ (ج) وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُـــمْ (صلى) ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِـ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)"

التجمع المتكلس على موروث الأسلاف غير مقبول في القرءان ، فمن يزعم أن موروث أسلافه مفيد "هادوا" فليتوقف عن الحياة إن استطاع و ليمتنع من أستعمال التراكم العلمي و التقني إن استطاع ، أي بتعبير القرءان ليتمنّى الموت و توقف الحركة ، و السلفيون أوّل الناس معرفة أنّ هذا مستحيل ، فمشاريعهم وحياتهم وعيشهم كلّها مبينة على ما أفرزه العلم ، و يحذرهم القرءان من الكذب على النفس و من محاولة تقديم الجثة على أنّها الحل ، فهذا التناقض بين الممارسة و الشعار سيفضي إلى موت حقيقي ثم حساب حقيقي عن هذا التلاعب.

إنّنا في الآيه نعيش غاية الخطاب وهو التحذير من الإنزلاق نحو مجتمع بلا مشروع أو مجتمع مغرور دون بينّة إلاّ إدعاء حمولة الرسالة دون دليل موضوعي يبيّن قيمة الرسالة من حاميلها.





الخميس، 29 أكتوبر 2009

تاريخيّة الوضع في الاسلام




أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟


يتكئ أصحاب الفهم المغلوط للسُنة النبوية على ما يُسمى بالحديث النبوي الشريف الظني، والمُمتلئ بالإسرائيليات، وألطمم والرممم، والغث والسمين، والصحيح القليل، والموضوع الكثير ولن نزيد، كمصدر للدين والعلم، حتى وقع السواد الأعظم من المسلمين في المحظور، وأوقع العُلماء الأفاضل أنفسهم في الحرام. لقد قيد البعض آيات التنزيل الحكيم بتأويلات وتفسيرات بشرية من خارج النص، بأحاديث خبيثة وخشبية، دُست ونُسبت للرسول الكريم (ص) حتى باتت هذه الأحاديث المكذوبة على رسول الله (ص)" تلموداً" سُنة مُبتدعة ودين جديد للمسلمين، وسيفاً مُسلطاً على رقابهم، حولتهم من موحدين بالله الواحد الأحد إلى مُشركين، كما كانوا في جاهليتهم الأولى وهم لا يشعرون، فصار الرسول (ص) البشر المخلوق، شريكاً يُشرع مع خالقه! وينسخ تشريعاته وأحكامه، ويُحرم الحلال الذي أحله الله سُبحانه وتعالى، لجهلهم أو تجاهلهم، بأن تحريم الحرام هو من اختصاص الله تعالى حصراً، وأن الحرام شمولي وأبدي، لقوله سُبحانه وتعالى في كتابه العزيز:


قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) الأنعام:151)


وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) النحل: (116)


قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الأنعام: (145)


وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (الأنعام: 119)


قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ –الأنعام 150)



إن المُحرمات الأساسية في التنزيل الحكيم لا تتجاوز (13) مُحرماً تسع منها في سورة (الأنعام(151 –– 153 : مُضافاً إليها محارم النكاح وربا الصدقات والأطعمة المُحرمة، وأن الأصل في الأشياء الحِلية، وأن الحرام هو الاستثناء.


للأسف الشديد، إن المسلمين وبعد أن هجروا كتاب الله تعالى، مستعدون للدفاع بدمائهم وأنفسهم عن هذه السُنة المُبتدعة، المُغلفة بالأحاديث التي تُعارض كتاب الله تارة، وتُسقط العقل والعلم، والمكان والزمان تارة أخرى، لإيمانهم العاطفي وتعلقهم بها منذ نعومة أظفارهم، واعتقادهم بأنها أحاديث صحيحة لا تشوبها شائبة، دون أن يكون لهم القدرة على نقدها وإن كانت مكذوبة على رسول الله (ص) ويرفضون ويُحاربون كل من يُحاول كشفها لهم بشتى الوسائل، حيناً بتوجيه تهم باطلة جاهزة ومُعلبة، وحيناً آخر بالتكفير والقمع والاعتداء، وفي كثير من الأحيان ببذاءة اللسان!. حتى أضحت تقليداً مُتبعاً عند الذين نصبوا أنفسهم وكلاء حصريون عن الله سُبحانه وتعالى، باسم الدفاع عن السُنة النبوية والأحاديث الأموية.. لأن الكشف عن حقيقة هذه الأحاديث ستكشف سذاجتهم بدينهم، وغفلتهم عنه لأكثر من ألف وأربعمائة من السنين.



حتى لا أُتهم بالكذب والافتراء، أو بأنني أهرف بما لا أعرف، فسوف أستشهد بما كتبه البعض من عُلماء السُنة، ومنهم الدكتور الشيخ مُصطفى السباعي، أحد العلماء البارزين والدعاة المشهورين والمصلحين المعدودين على أهل السُنة، رحمه الله في كتابه: السُنة ومكانتها في التشريع ، طُبع في دار الوراق/ المكتب الإسلامي عام 2000 دفاعاً عن المفهوم الفقهي للسُنة النبوية تحت عنوان: كيف نشأ الوضع؟ ومتى؟ وأين؟ وبما كتبه أيضاً الدكتور الشيخ محمد عجاج الخطيب، وكيل كلية الشريعة بجامعة دمشق ورئيس قسم علوم الحديث والسُنة في كتابه (السُنة قبل التدوين) ومُقتطفات من كتابات الشيخ يوسف القرضاوي، لنلقي الضوء بعد ذلك على ما أورده الشيخ محمود أبو ريه في كتابه أضواء على السُنة المُحمدية


اقتباس: كتب الشيخ السباعي، رحمه الله: كانت سنة أربعين من الهجرة هي الحد الفاصل بين صفاء السُنة وخلوصها من الكذب والوضع! وبين التزيد فيها واتخاذها وسيلة لخدمة الأغراض السياسية والانقسامات الداخلية بعد أن أتخذ الخلاف بين معاوية شكلاً حربياً سالت به دماء وأزهقت منه أرواح وبعد أن انقسم المسلمون إلى طوائف مُتعددة. لقد حاول كلُ حزب أن يؤيد موقفه بالقرآن وبالسُنة، وطبيعي أن لا يكون مع كل حزب ما يؤيده في كل ما يدعي ، فعمل بعض الأحزاب على أن يتأولون القرآن على غير حقيقته، وأن يُحمَلوا نصوص السُنة ما لا تحتمله، وأن يضع بعضهم على لسان الرسول أحاديث تؤيد دعواهم، بعد أن عزَ عليهم مثل ذلك في القرآن لحفظه وتوفر المسلمين على روايته وتلاوته، ومن هنا كان وضع الحديث واختلاط الصحيح منه بالموضوع. وأول معنى طّرّقه الوضاع في الحديث هو فضائل الأشخاص، فقد وضعوا الأحاديث الكثيرة في فضل أئمتهم ورؤساء أحزابهم، ويُقال أن أول من فعل ذلك الشيعة على اختلاف طوائفهم، كما قال ابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" – أعلم أن أصل الكذب في أحاديث الفضائل جاء من جهة الشيعة، وقد قابلهم جهلة أهل السُنة بالوضع أيضاً. ** أهـ – السُنة ومكانتها في التشريع ص 93-94


وكتب الدكتور، الشيخ محمد عجاج الخطيب تحت عنوان: ابتداء الوضع وأسبابه قائلاً:


اقتباس: بقي الحديث النبوي صافياً لا يعتريه الكذب ولا يتناوله التحريف والتلفيق طوال اجتماع كلمة الأمة على الخلفاء الأربعة الراشدين، قبل أن تنقسم إلى شيع وأحزاب، وقبل أن يندس في صفوفها أهل المصالح والأهواء – انتهى.) السُنة قبل التدوين ص 187 ونقتبس من نفس المصدر ص (188


وهكذا نشأت الأحزاب والفرق التي اتخذت شكلاً دينياً له أبلغ الأثر في قيام المذاهب الدينية في الإسلام، وقد حاول كل حزب أن يدعم ما يدعي بالقرآن والسُنة، ومن البديهي أن لا يجد كل حزب ما يؤيد دعواه في نصوص القرآن والسُنة الشريفة، فتأول بعضهم القرآن وفسروا بعض نصوص الحديث بما لا تحتمله، إلا أن هذا لم يُحقق ما يرمون إليه ولم يجد بعضهم إلى تحريف القرآن أو تأويله سبيلاً، لكثرة حُفاظه ، فتناولوا السُنة بالتحريف وزادوا عليها، ووضعوا على رسول الله ما لم يقل ونشطت حركة الوضع مع الزمن، حتى اختلط الحديث الصحيح بالموضوع، وظهرت أحاديث موضوعة في فضائل الخُلفاء الأربعة وغيرهم من رؤساء الفرق الدينية ، وكانت الأحاديث الموضوعة تولد مع ظهور الفرق.


ومن نفس المصدر ص 189 يُتابع الدكتور، الشيخ محمد عجاج الخطيب قائلا: ولم يقتصر الوضع على فضائل الأشخاص، ودعم الآراء والأفكار العقائدية والمذاهب السياسية، بل تعداها إلى مُختلف أبواب الحديث، وكادت الأحاديث الموضوعة تتناول جميع جوانب الحياة الخاصة والعامة، فوضعت أحاديث في الفضائل والمثالب، وأحاديث في مناقب البُلدان والأيام، وآخري في العبادات اَلْمُخْتَلِفَة، وفي المُعاملات والأطعمة والأدب والزهد، والذكر والدعاء، وفي الطب والمرض والفتن والمواريث وغيرها.


كتب الدكتور يوسف القرضاوي على صفحات موقعه الآتي:


اقتباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للقرآن كتابا يكتبونه منذ نزل به جبريل عرفوا باسم "كتاب الوحي" ، ولم يجعل ذلك للسنة، بل صح عنه قوله "لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن"


أن السنة من أجل ذلك دخلها المنكر والموضوع وما لا أصل له من الحديث، فضلا عن الضعيف والواهي وما لا يصلح للاحتجاج به، واختلط الحابل بالنابل، فلم يعد في الإمكان التمييز بين ما يصح وما لا يصح، وصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للسنة كتابا يكتبونها كالقرآن، بل نهى عن كتابة غير القرآن في أول الأمر، لتتوفر الهمم على كتابة القرآن، لقلة الكاتبين، وقلة مواد الكتابة وتنوعها وعسرها، وخشية اختلاط القرآن بغيره، ولكنه كتب أشياء مهمة لتبلغ عنه وتنفذ ، مثل كتبه في الصدقات والديات وغيرها، وأذن لبعض الصحابة أن يكتبوا، مثل عبد الله بن عمرو وغيره. وحث على تبليغ الأحاديث لمن لم يسمعها بدقة وأمانة، وجاء في ذلك حديثه المستفيض، بل المتواتر عند بعض العلماء: "نضر الله إمِرء سمع مقالتي، فوعاها ، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع" ، وفي رواية: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"

لقد أورد الشيخ محمود أبو ريه، رحمه الله - في كتابه أضواء على السُنة المُحمدية) ص( 6 - 7 عدة أمور منها:


اقتباس:- إن للحديث النبوي من جلال الشأن وعلو القدر ما يدعو إلى العناية الكاملة به، والبحث الدقيق عنه. لكن العُلماء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن وقفوا بعلمهم عندما يتصل بالسند فحسب ، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيئ ، وعلى أنهم قد بذلوا أقصى جهدهم في دراسة علم الحديث من حيث العناية بسنده فإنهم قد أهملوا جميعاً أمراً خطيراً ، هو البحث عن حقيقة النص الصحيح لما تحدث به النبي – صلوات الله عليه. وقد حفزني حب عِرفان الحق أن أبحث عن أصل الحديث وروايته، وتاريخ حياته من المصادر الصحيحة، والأسانيد الوثيقة، وانتهيت إلى نتائج خطيرة!
ذلك أني وجدت أنه لا يكاد يوجد في كتب الحديث كُلها ما سموه صحيحاً، أو ما جعلوه حسناً أو جاء على حقيقة لفظه ومُحكم تركيبه كما نطق به الرسول، ووجدت أن الصحيح منه على اصطلاحهم إن هو إلا معانٍ بما فهمه بعض الرواة! وقد يوجد بعض ألفاظ مُفردة بقيت على حالتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في الفلتة والنُدرة، وتبين لي أن ما يُسمونه في اصطلاحهم حديثاُ صحيحاُ، إنما كانت صحته في نظر رواته! لا أنه صحيح في ذاته، وأن ما يُقال عنه "مُتفق عليه" ليس المُراد أنه مُتفق على صحته في الأمر، وإنما المُراد أن البُخاري ومُسلم قد اتفقا على إخراجه – وليس من شروط الحديث أن يكون مقطوعاً في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان والسهو على الثقة** انتهى

لماذا لم تُدون السُنة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم؟ يُجيب الدكتور الشيخ السباعي، رحمه الله على هذا السؤال، فيقول:


اقتباس: لا يختلف اثنان من كتاب السيرة وعُلماء السُنة وجماهير المسلمين في أن القرآن الكريم قد لقي من عناية الرسول (ص) والصحابة ما جعله محفوظاً في الصدور ومكتوباً في الرقاع والسعف والحجارة وغيرها ، حتى إذا توفي رسول الله كان القرآن محفوظاً مُرتباً لا ينقصه إلا جمعه في مُصحف واحد


أما السُنة فلم يكن شأنها كذلك، رغم أنها مصدر هام من مصدر التشريع في عهد الرسول! ولا يختلف أحد في أنها لم تُدون تدويناً رسمياً كما دون القرآن، ولعل مرجع ذلك إلى أن الرسول) ص) عاش بين الصحابة ثلاثاً وعشرين سنه، فكان تدوين كلماته وأعماله ومُعاملاته تدويناً محفوظاً بالصحف والرقاع من العسر بمكان، لما يجتاح ذلك إلى تفرغ أناس كثيرين من الصحابة لهذا العمل الشاق، ومن المعلوم أن الكاتبين كانوا من القلة في حياة الرسول بحيث يُعدون على الأصابع، وما دام القرآن المصدر الأساسي الأول للتشريع، والمُعجزة الخالدة لرسول الله (ص) فليتوفر هؤلاء الكُتاب على كتابته دون غيره من السُنة، حتى يؤدوه لمن بعدهم مُحرراً مضبوطاً تاماً لم ينقص منه حرف، وشي آخر أن العرب لأميتهم كانوا يعتمدون على ذاكرتهم وحدها فيما يودون حفظه واستظهاره، فالتوفر على حفظ القرآن مع نزوله مُنجماً على آيات وسور صغيرة، ميسور لهم وداعية إلى استذكاره والاحتفاظ به في صدورهم، فلو دونت السُنة كما دون القرآن وهي واسعة كثيرة النواحي شاملة لأعمال الرسول التشريعية وأقواله منذ بدء رسالته إلى أن يلحق بربه، للزم انكبابهم على حفظ السُنة مع حفظ القرآن، وفيه من الحرج ما فيه، عدا خوف اختلاط بعض أقوال النبي الموجزة الحكيمة بالقرآن سهواً من غير عمد، وذلك خطر على كتاب الله يفتح باب الشك فيه لأعداء الإسلام مما يتخذونه ثغرة ينفذون منها إلى المُسلمين لحملهم على التحلل من أحكامه والتفلت من سُلطانه، كل ذلك وغيره – مما توسع العُلماء في بيانه – من أسرار عدم تدوين السُنة في عهد الرسول، وبهذا نفهم سر النهي عن كتابتها الوارد في صحيح مُسلم عن ألي سعيد ألخدري عن رسول الله (ص) لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه. أهـ .السُنة ومكانتها في التشريع ص رقم 77


يُجيب على نفس السؤال الشيخ محمود أبو ريه في كتابه أضواء على السُنة المُحمدية، ص 18 فيقول:


اقتباس: كان رسول الله – صلوات الله عليه - كما قلنا مُبيناً ومُفسراً للقرآن بفعله، ولكن أقواله في هذا البيان أو في غيره لم تُحفظ بالكتابة كما حُفظ القرآن، فقد تضافرت الأدلة النقليه الوثيقة، وتواتر العمل الثابت الصحيح على أن أحاديث الرسول صلوات الله عليه لم تُكتب في عهده كما كان يُكتب القرآن ولا كان لها كتّاب يُقيدونها عند سماعها منه وتلفظه بها كما كان للقرآن كُتّاب معروفون يُقيدون ايآته عند نزولها، وقد جاءت أحاديث صحيحة وأثار ثابته تنهى كلها عن كتابة أحاديثه، صلى الله عليه وسلم، نجتزئ هنا بذكر منها:


روى أحمد ومُسلم والدرامي ،) الدرامي شيخ البُخاري) والترمذي والنسائي، عن أبي سعيد الخدري (إن صحَ) قال رسول الله: لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه. وأخرج الدرامي عن أبي سعيد كذلك: إنهم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم. ورواية الترمذي عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: استأذنا النبي (ص) في الكتابة فلم يأذن لنا (2) * لهذا الحديث صيغ آخرى كلها تتفق في المعنى، ومن مراسيل ابن أبي ملكية أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تُحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اِخْتِلَافًا، فلا تُحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا:: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه * تذكرة الحُفاظ الذهبي جزء 1


إن صَحَ - ما ورد في المنع من كتابة الحديث هو ما رواه أحمد في مُسنده ومُسلم في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: لا تكتبوا عني شيئاً إلا القرآن فمن كتب غير القرآن فليمحه) وإن أصحّ) ما ورد في الإذن، حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا: (اكتبوا لأبي شاه) وهو لا يُعارض حديث أبي سعيد الخدري وما في معناه على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه (ص) عن كتابة حديثه مُراد به ألا تتخذ دينا عاماً كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خُطبة خطبها (ص) يوم فتح مكة موضوعها تحريم ولقطة الحرم، وهذا في بيانه (ص) للقرآن الذي صرح به يوم الفتح وصرح به في خُطبة الوداع وأمر بتبليغه - فهو خاص مُستثنى من النهي العام، وقد صرح البُخاري في باب اللقطة من صحيحه بأن أبا شاه اليمني طلب أن تُكبت له الخُطبة المذكورة فأمر – صلى الله عليه وسلم بإجابة طلبه.


جهود العُلماء لمقاومة حركة الوضع!!

كتب الشيخ السباعي – رحمه الله في الفصل الثالث من كتابه السُنة ومكانتها في التشريع: تحت عنوان: في جهود العُلماء لمقاومة حركة الوضع ص 108

اقتباس: لا يستطيع من يدرس موقف العُلماء – منذ عصر الصحابة إلى أن تم تدوين السُنة – من الوضع والوضاعين وجهودهم في سبيل السُنة وتمييز صحيحها من فاسدها إلا أن يحكم بأن الجهد الذي بذلوه في ذلك لا مزيد عليه، وأن الطرق التي سلكوها هي أقوم الطرق العلمية للنقد والتمحيص، حتى لنستطيع أن نجزم بأن عُلمائنا رحمهم الله، هم أول من وضع قواعد النقد العلمي الدقيق للأخبار والمرويات بين أمم الأرض كلها، وأن جهدهم في ذلك جهد تُفاخر به الأجيال وتتيه به على الأمم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.


للأنصاف، أشهد للعُلماء بأن هذا الجهد الذي بُذل كان مضيعة للوقت الثمين ولم يوجه إلى الوجهة التي تستحق هذا الجهد، وهي تدبر كتاب الله تعالى الذي أُحكمت آياته ثم فُصلت من لدن حكيم خبير، وأشهد بأن الطرق التي سلكوها هي أبعد ما تكون عن الطرق العلمية للنقد والتمحيص بعدما تم الاستغناء عن كتاب الله تعالى! الذي حوله أصحابه إلى أشرطة تتُلى في الأفراح والأتراح، واستبدلوه بكتب الحديث والمرويات التي تطفح بالإسرائيليات، وكتب الناسخ والمنسوخ.
إن السؤال الأول المُلح الذي يطرح نفسه بشده، لماذا تم استبعاد كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه للحكم على صدق الحديث أو كذبه؟ هل الاهتمام بدراسة أحوال الرواة، ومعرفة سنوات ولادتهم، وسنوات وفياتهم، وأسماء شيوخهم وتلاميذهم ورحلاتهم ، ودرجات ضبطهم لمروياتهم أدق وأصدق من كتاب الله تعالى؟؟

لربما خفي على البعض ولم يخفَ على البعض الآخر، من أن عُلماء السُنة هم الذين كتبوا تاريخ المسلمين لأنفسهم حين كانت السُلطة الشرعية بيدهم، وما زالوا.. والذي يكتب التاريخ بنفسه ولنفسه لا يمكن إلا أن يكونوا متحيزاً، والدكتور الشيخ السباعي رحمه الله، لم يشذ عن هذه القاعدة، فسنة أربعين من الهجرة لم تكن هي الحد الفاصل بين صفاء السُنة وخلوصها من الكذب والوضع، وبين التزيد فيها واتخاذها وسيلة لخدمة الأغراض السياسية والانقسامات الداخلية، لقد استمر الوضع، واشتدت شوكة الكذابين المُفترين (الوضاعين كما يصفهم أهل السُنة والجماعة للتلطيف) وبوازعٍ من الولاة طيلة العهد العباسي، والأهم من ذلك كله اعتراف الشيخ السباعي رحمه الله، والشيخ الخطيب، والشيخ يوسف القرضاوي، بأن السُنة لم تدون في عهد الرسول (ص (والأسباب التي وردت في هذه الكتب القيمة، لم ولن تغير من حقيقة الأمر شيء، ويبقى هذا السؤال المُحير للمُحدثين والعُلماء الأفاضل للإجابة عليه :لماذا ضُرب بعرض الحائط بحديث رسول الله (ص) إن صَحَ عنه ، الذي رواه مُسلم في صحيحه : لا تكتبوا عني، من كتب عني غير القرآن فليمحه؟ والله سُبحانه وتعالى يقول:

تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون (الجاثية: 6)


أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (العنكبوت: 51 )


الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

من الذي صاغ القرءان ..... ؟؟


؟؟؟

اعتبار القرآن ألفاظه حق ينفي أن يورد المفرد و هو يريد الجمع أو يورد الجمع و هو يريد الإفراد أو يورد المثنى و هو يرد المفرد أو الجمع وهذه القاعدة التي تظهر بسيطة في بدايتها سرعان ما تصبح مستحيلة التطبيق عند الأسلاف و من تبعهم لضرورات المذهب العقائدي و الأفكار المسبقة.
و لتوضيح هذا الكلام سأجعل الحديث حوارا بين فردين أحدهما أطلقت عليه إسم "وَرَث" الذي يمثل المفسرين و الآخر "قيَرى" الذي يمثل محاولة قراءة القرآن بألفاظ القرآن نفسها، ويدور حوارهما حول آيات من القرآن سوف أعرضها تباعا و أبدأ بآيات من سورة هود :


هود

قيرى : رسل من جاءت لإبراهيم ؟
ورث : رسل الله؟
قيرى : لماذا قال رسلنا و لم يقل رسلي كما قال :
" كتب الله لأغلبن أنا و رسلي" المجادلة :21 ؟
ورث : أورد الجمع هنا للتعظيم و التفخيم لنفسه
قيرى : كان أولى أن يقول إذن "لنغلبن أنا و رسلي" وهل الله يحتاج لتفخيم الخطاب و تعظيمه و المبالغة فيه، أليس كلامه حقا؟ و أسألك يا ورث، من قائل كل هذه القصة للنبي الكريم إبراهيم ؟
ورث : أولاّ إيراد الجمع مرة و المفرد مرة أخرى قد يكون فيه حكمة خفت علينا، أماّ قائل هذه القصة لإبراهيم فهو الله سبحانه
قيرى : كيف يكون هو الله و هو يقول "يجادلنا في قوم لوط"، هل الله فاطر السماوات و الأرض يُجَادل وهل يعبر عن نفسه بالجمع؟
ورث :قد يكون المعنى أنّ مجادلة إبراهيم للملائكة هي نفسها مجادلة لله إذ هو من أرسلهم
قيرى : كان يجب إذن أن تأتي الصيغة "يجادلهم" الله ما دام هو المتكلم وهل يقول الله لإبراهيم "قد جاء أمر ربك" متكلما عن نفسه بصيغةالغائب؟
ورث : أنا عندي أنّ القرآن كلام الله و خطابه و لا أريد الجدال كثيرا في هذه التفاصيل ويكفيني التصديق بها.
قيرى : القرآن كلام الله ولا يكفي التصديق بل المطلوب هو التدبر و الغوص لفهم ما يحمل من حق و يا ورث واصل قراءة سورة هود و اقرأ معي :


هود

قيرى : من المتكلم بالجمع؟
ورث : الله تعالى مفخما نفسه
قيرى : كيف يكون هو الله و هو يتكلم عن نفسه بالجمع و بصيغة الغائب "مسومة عند ربك" في آن واحد ولا يقول "مسومة عندي" ؟

و لن نواصل هذا الحوار طويلا ف "ورث" سيطلعنا على مراوغات المفسرين و تخريجاتهم و أساليبهم في لي آي القرآن وخلاصة القول أن النص القرآني يغيب في متاهات مذاهبهم الفكرية العقائدية و في رواياتهم التي جعلوها مكملة للنص القرآني و كأنّ القرآن ناقص يحتاج لإحكام آياته من خارج نصه.
و نقف هنا لنبددالزعم القائل أنّ الله يتكلم عن نفسه بصيغة الغائب تنزيها و بضمير الجمع تعظيما و تفخيما على عادة بعض الملوك و لنقرأ :

"و نادى فرعون في قومه قال ياقومـ أليس لي ملك مصر و هذه الأنهار تجري من تحتي، أفلا تبصرون " الزخرف :51
"أنا ربكم الأعلى" النازعات 24
"أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون" النمل :32
"أيكم يأتيني بعرشها" النمل
"ما مكنّي فيه ربّي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم و بينهم ردما" الكهف :95

و هؤلاء كلهم ملوك (فرعون، بلقيس، سليمان، ذو القرنين) يصيغ القرآن كلامهم بصيغة المفرد فأين ما قاله المفسرون عن عادة الملوك بالحديث عن أنفسهم بصيغة الجمع تعظيما؟
ووقفة مع آية من كتاب الله تُنهي قولنا في هذه المسألة
ولنقرأ :
"و لقد آتينا داوود و سليمان علما، و قالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين" النمل:15
فصيغة المثنى تدل على فردين و لم يأت القرآن بصيغة الجمع هنا مع أنّهما ملِكين، وهذه الآية تجيب عن سؤال من يظن أنّ القرآن يمكن أن يأتي بصيغة الجمع للحديث عن المفرد في قوله :

"يأيها الناس عُلّمنا منطق الطير و أوتينا من كل شيء" النمل :16
ويُفهم من الآية أنّ من عُلِّم ليس فقط سليمان بل أباه كذالك.

فالقرآن يؤكد إحكام عباراته و ألفاظه و بهذا ينبغي أن نقرأه لنصل إلى حقائقه و ندخل إليه كما ندخل مخابرنا. وكلام الله عربي و ليس أعجمي فبنيته دقيقة متقنة لا تختلط فيه لا دلالات الألفاظ و لا صيغها.
و أمّا منهج الأسلاف، إن كان لهم منهج، فقد جعلوا من القرآن خليطا لا ضبط فيه ولا حق. كيف يمكن أن يعبر الله عن نفسه بالجمع و لم يأت في القرآن أبدا :
"سبحانكم"
و لا " الحمد لكم"
ولا " عليكم توكلنا"
و لا "إياكم نعبد"
"لا إله إلاّ أنتم"
....
لماذا لم ينتبه الأسلاف إلى هذه الصيغ و لم يعطوها حقّها من العناية لأنّهم اعتقدوا إبتداءا أنّ المتحدث في القرآن هو الله مباشرة ولم يروا أساسا أنّ القرآن من ملائكة الوحي الموكلين بمسيرة الإنسان خلقا و تعليما و إماتة و بعثا و حسابا وهذا ما نقرأه في القرآن كله لو لاحظنا أنّ عبارات القرآن حق لا مجاز فيها و لا تورية ولا إلتواء. فالملائكة بإجتماعهم كوّنوا روحا تمّ بها إنزال الوحي من ربهم وربّ النبي و من معه من الملأ الأعلى و يكفي قراءة سورة الصافات وهي تصف كيف صيغ القرآن و حُفظ من مركز صياغته إلى إخراجه صحيفة مقروءة للناس. فصياغة القرآن نصا جاءت من الملأ الأعلى و ليس من الله فاطر السماوات و الأرض ولقد أكد القرآن هذا وقرره و لنقرأ:

"قل نزّله روح القدس من ربّك بالحق ليثبت الّذين ءامنوا و هدى و بشرى للمسلمين"
النحل :102

فلو اعتبرنا الله فاطر السماوات و الأرض هو من صاغ النص القرآني فكيف يقول في الآية "من ربّك" بدل "منّي"، ولو جعلنا الملائكة هي من تتحدث في هذه الآية وتشهد أنّ الله ذاتا هو من صاغ النص القرآني و أرسلها به لوقعنا في نفس الإشكال إذ كان يجب أن تقول "قل نزّله روح القدس من ربّه" و ستبقى إذن صياغة "من ربّك" خاطئة الصياغة في الحالتين. فالآية تقول أنّ تنزيل القرآن (نزّل) إلى قلب النبي تمّ بإجتماع ملائكي كوّن روحا هي التي تحفظ نصه من التأثير عليه و هذا التنزيل هو من صياغة رب النبي المكلف به و بصياغة القرآن.

ولنقرأ كذلك في آية سبأ:6 توضيح مباشر لمصدر صياغة القرآن :
"و يرى الّذين أوتوا العلم الّذي أُنزل إليك من ربّك هو الحق و يهدي إلى صراط العزيز الحميد"
و نفس الملاحظة تنطبق على هذه الآية، ففي إعتبار الله ذاتا هو من صاغ القرآن تناقض في صياغة الآية. وليس هذا القول دليلا على إمكانية دجول الخلل في النص القرآني بحكم صياغته من مخلوقات بل هذه شهادة أنّ الله خلق الكون كلمات و كلاما و أنّه خلق مخلوقات عالمة واكبت خلق الكون من إنفجاره.

و هؤلاءالملائكة المدبرين المواكبين لمسيرة الخلق و مسيرة الإنسان بنفخ الروح فيه هم نفسهم من ساير الإنسانية بإرسال الأنبياء و تحضيرهم و بتربية الإنسان و رقيه كي يأخذ على عاتقه وظيفة الخلافة التي من أجلها خُلق و نقرأ وقوفهم مع نوح في محنته :

"و لقد نادانا نوح فلنعم المجيبون" المؤمنون :27

وهذه القوى الملائكية هي ما نجد صورها في أساطير الأمم القديمة منحوتة أو منقوشة عند الأشوريين و السومريين و القبطيين التي عجزنا عن إستنطاقها بطريقة صحيحة لإعتبارنا إياها تخريفا و وهما.
كل هذه الحقائق نجدها في القرآن واضحة لولا ثقل موروث أسلافنا الذي يسيطر على قلوبنا، و من رحمة الله بنا أنّ قراءة القرآن عند عجز الناس عن التفاعل معه تأتي من وحي الملائكة نفسها بما تكشف لنا من علم لتخرج قروء القرآن قرءا قرءا و يستقر نبأها عندها :

"فإذا قرأناه فاتبع قرءانه" القيامة :18

و هؤلاء الملائكة هم نفسهم الذين قالوا في القرآن :
"تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا (63) و ما نتنزّل إلاّ بأمر ربّك، له ما بين أيدينا وما خلفنا و ما بين ذلك؛ وما كان ربُّك نسيّا (64)" مريم

يجب علينا إذن إن أردنا فهم الحق القرآني أن نترك القرآن يتكلم و لا نبيح لأنفسنا أن نتكلم في مكانه و لا أن نسوغ حقائقه وفق مذاهبنا و أفكارنا المسبقة، وعلينا أن نلتزم عباراته و نجعل المفرد مفردا و الجمع جمعا و المثنى مثنى، و أن نرى أنّ ألفاظه حقا لا تمويه فيها و لبس. و أنّه لا يجوز لنا بحال تقدير محذوف في عباراته أو في علاماته بله أن نعتبر فيه حروفا أو ألفاظا زائدة.


ج ـ هل قطع النبي الكريم محمد أشجارا مثمرة عمدا ؟


القارئ لكتب السيرة و التراث الحديثي يجد أنّ النبي الكريم يُتّهم بقطع أشجار مثمرة في إجلاءه ليهود بني النضير و جاء هذا الإتهام في روايات أراد منها أصحابه شرح ما جاء في أوائل سورة الحشر إن أحسنّا بهم الظن أو أرادوا إتهام النبي بالوحشية إن ساء ظنّنا بهم و لنقرأ :


الحشر

لنترك القرآن يسرد لنا حقائقه بنظمه في تنازعنا مع الروايات التي تتهم النبي الكريم بقطعه للأشجار المثمرة.
اعتبر الرواة و المفسرون أنّ "لينة" هي شجرة التمر المعروفة (النخلة وجمعها نخل) أو اعتبروا "لينة" وصفا للنخلة فهل هذا صحيح؟
ورد لفظ "النخل" في القرآن 13 مرة و هذه المرة الوحيدة التي ورد فيها النخل بلفظ "لينة" بالمفرد حسب المفسرين. ونسأل المفسرين و الرواة لما أضاف القرآن عبارة "قآئمة على أصولها" و هي إضافة لا داع لها إن اعتبرنا أنّ "لينة" هي نخلة إذ كان يكفي أن يُقال "ما قطعتم من لينة أو تركتموها فبإذن الله".
و نسأل لما أضاف "على أصولها" إلى قائمة لو كان المقصود ب "لينة" النخلة وكان يكفي أن يقول "قائمة" دون إضافة "أصولها" التي هي حشو عبارات بهذا الفهم لدليل لفظ "لينة" و هل هناك نخلة تقوم إلاّ على أصلها؟

و نختم أسئلتنا التي تأتي على إتهامهم من أصله فنقول: "لينة" مفرد فلماذا قال "أصولها" بصيغة الجمع بدل "أصلها" بالمفرد و قد جاء القرآن في بلاغ آخر بصيغة المفرد :

"كشجرة طيبة أصلها ثابث و فرعها في السماء" إبراهيم :24

إنّ ما روته الروايات و ما سطره أصحاب السير في أحداث إجلاء بني النضير لا يستقيم مع الآية القرآنية أبدا و من أي جهة أخذته وجدته يتناقض مع البلاغ القرآني فماذا يقول القرآن و عن ماذا يتحدث ممّا غاب عن الأسلاف رؤيته.

الآية و بكل بساطة تقول أنّ الذي لا يقوم على أصله يُقطع من جذره، فمن هو الذي لا يقوم على أصله :

ـ خائن الوطن بترك الدفاع عنه أو محالفة العدو عليه أو الإفساد فيه
ـ خائن العهد الذي وقع على ميثاق ثمّ خرقه

و هذا ما يؤكده القرآن بوصفه لهذه "لينة" ب "الفاسقين الذين تحددهم هذه الصفات :
".. وما يضل به إلاّ الفسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه و يقطعون مآ أمر الله به أن يُوصل و يفسدون في الأرض؛ أولئك هم الخاسرون(27)" البقرة

يهود قوم النبي الكريم موسى في يثرب التي أصبحت بمجيء النبي إليها "المدينة" بفعل الميثاق المديني فيها بين أهلها و النبي، هؤلاء اليهود لديهم كتاب منزل يمنعهم من التآلب على من موالاة الكافرين المعتدين على أبناء وطنهم الصالحين المصلحين و يحرم عليهم الغدر، ولكنهم خانوا هذه الأصول و كفروا بها فهؤلاء قطعوا أصولهم بأيديهم، والقرآن يشير أنّ هؤلاء اليهود أصولهم عريقة في المنطقة و سماهم "لينة" التي من أقرب مشتقاتها "لون" في البلاغ المبين، و لون البشرة علامة الأصل الجغرافي للإنسان في كل بلد، و هؤلاء اليهود إذا عريقون في المنطقة و ليسوا دخلاء كما ظنّ الناس بفعل حملة الكهنوت اليهودي من قوم النبي الكريم موسى و ترويجه فكرة تواجده الأولي في بابل ثمّ في بلاد النيل، والحقيقة أنّ يهود يثرب ممن عادوا النبي هم أقلية إذ أغلبية يهود يثرب أسلموا و حنفوا و ناصروا النبي الكريم و نصروه و على رأسهم رئيسهم الفيديرالي عبد الله بن أبي بن سلول. و القرآن يحدد أنّ أصولهم تنحدر من الجزيرة لا غيرها. هؤلاء اليهود خانوا وطنهم و خانوا كتابهم و خانوا عهودهم فاستحقوا القطع، ويشير القرآن إلى ترك "لينة" أخرى لم تُقطع و هم يهود بني قريظة و التي كانت تهيأ لعمل الخيانة و أرجأها النبي الكريم علّها تعود و انتهت هي كذلك كأختها في مستنقع الخيانة و انتهى أمرها قطعا بإجلائها.

القرآن هو الحق كله في حركة ألفاظه و نظمه و علاماته التي تتحرك حيّة لترسم المشهد الحق، فألفاظه حق لا مجاز فيها و لا لبس و لا تمويه و عباراته محكمة لا محذوف فيها و لا تقدير و لا زيادة و علاماته تنهي رسم المشهد بكامله و صيغه وُضعت بحق دون مبالغة أو إرادة تفخيم و تعظيم.

حادثة الاسراء وماهية الرب

في هذا البحث أحاول أن أبقى حبيس المنهج الذي أرتضيته لنفسي في قراءة القرءان و أن أسير بالسقف المعرفي المعاصر في ما فتح عليناالراسخون في العلم من نوافذ، وأعني بهم علماء الميت (الفيزياء) و علماء الحي (البيولوجيا) في محاولة لتأويل جزء من سورة النجم.

موضوع سورة النجم هو ماهية صائغ التنزيل، الرّب المكلف بصياغة كلام الله ألفاظا مرسومة.و هي توضح ماهيته و تقارن بالأرباب الصغيرة التي يتشبت بها الناس من اللاّت و العزى و منواة الثالثة الأخرى و كلّ هذه الأرباب أسماءا و ليست ألقابا. وهي تصور في وحدة موضوعية خارقة الفروق بين ماهية الموجودات الملائكية و بين ماهية الرّب و هي تؤكد أنّ الإتصال بالمخلوقات العليا أو بأي نوع من المخلوقات التي يتشبت بها الناس لا يعني إمكان إتخاذهم مدافعين، بل حتّى الشهادة لن تُسمح لهم إلاّ وفق سنن الله الموضوعية التي تمنع أن يمر الظالم و يُجرَّم المحسن :

"و كم من ملك في السماوات لا تُغني شفاعتهم شيئا إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى"

و الأية توضح أنّ النهاية هي للعمل و ليس لأمر أخر و هذا سبيل كل نبي في توضيح إستقلاله كفرد عن الرسالة فإتصاله لا يعني أبدا أن يعمل ما يشاء :

"أم لم ينبّأ بما في صحف موسى (36) و إبراهيمـ الذي وفّى (37) ألاّ تزر وازرة وزر أخرى (38) و أن ليس للإنسان إلاّ ما سعى (39) و أنّ سعيه سوف يُرى (40) ثمّ يجزاه الجزاء الأوفى (41)"
النجم

ليس هدف الإتصال بالرّب الإتصال نفسه و ليس غاية تنزيله الإنكفاء حول هذا التنزيل بل الغاية هي إضطلاعنا بمهامنا :

"أفمن هذا الحديث تعجبون (59) و تضحكون و لا تبكون (60) و أنتم سامدون (61) فاسجدوا لله و اعبدوا (62)"
النجم

فالسورة في القرءان وحدة موضوعية، و ما يظهر لأول وهلة تتابع دون ارتباط ما هو إلا وهم بصري عندما تنكشف دلالات الألفاظ و إحكامها، فلا انقطاع في السياق و لا عفوية في تتابع الآيات و لا خروج عن الموضوع.

لنبدأ الغوص في البلاغات:



رسم النجمـ بالميم الناقصة يشير إلى اتصال ظاهرة و كأنّ الميم الناقصة تشير إلى حدث مستمر ننتظر إتمامه.

الهوى مفهوم متعلق بتركز الشيء و إنحساره و كل نجم يهوي حتما و أداة "إذا" تعبر عن هذه الحتمية، و لنركز الآن في صيغة الأية:
"و النجمـ إذا هوى"
لنقارنها بالصيغ التالية :
"إذا هوى النجمـ" (1)
"إذا هوى النجم" (2)
"إذا النجمـ هوى"(3)
"إذا النجم هوى" (4)

الفرق بين هذه صيغة الأية و هذه الصيغ هي أنّ الآية تشير إلى أنّ هوى النجم له ما بعده و نهاية هوى النجم تتبعه ظواهر أخرى سيتم تفصيلها فيما بعد.

فالصيغة (1) تعبر عن أنّ هوى النجم عمل مستمر و هذه الصيغة بالميم الناقصة تعبر عن متابعة الظاهرة أي أنّنا أمام صورة النجم و هو يهوي على نفسه بفعل قوى الجذب الهائلة.
و الصيغة (2) تعبر عن حتمية هوى النجم و أنّ هذه الظاهرة ستقع حتما في أي نجم وهذا لورود النجم بالميم الكاملة.
إنّ الصيغة(3) نجدها في البلاغ المبين في سورة التكوير:
"إذا الشمس كوّرت (1)و إذا النّجوم انكدرت (2)
و إذا الجبال سيّرت (3) و إذا العشار عطّلت (4)
و إذا الوحوش حشرت (5) و إذا البحار سجرت (6)
و إذا النفوس زوّجت (7) و إذا الموءدة سئلت (8)"
التكوير
وهي تعبر أنّ تكوير الشمس و انكدار النجوم و تسيير الجبال و ...و لم يأت من تلقاء السنن العادية التي تحكم هذه الظواهر بل جاء نتيجة لظواهر أخري. فصيغة " إذا النجمـ هوى" تعبر عن هوى النجم وهو يهوي ليس بفعل نفاذ وقوده كما هو معروف بل بسنّة أخرى علينا بحثها في السياق.
أمّا الصيغة (4) فهي تصور هوى النجم المستقبلي الحتمي بفعل سنة أخرى غير نفاذ وقوده.

وعلينا التنبيه أنّ الواو في الأية :
"و النجمـ إذا هوى"
ليست الواو للـ "قسم" و كأنّ من صاغ يشك في ما يقول بل الواو تعبر أنّ هوى النجم له ما قبله، فهذا الحدث ليس آنيا و لا لحضيا بل صيرورة طويلة نتيجة نفاذ وقود النجم النووي.
و لكن ما هو النجم في القرآن؟

النجم جرم مضيء بحكم أنّنا نهتدي به :
"و هو الّذي جعل لكم النّجوم لتهتدوا بها في ظلمات البّر و البحر، قد فصلنا الأيات لقومـ يعلمون"
الأنعام: 97

النجم في البيان المبين ليس مرادفا للشمس بل هو جرم متميز عنها و إن كان كلاهما يضيء بفعل الإنشطارات النووية في قلبه فقد جاء لفظ النجوم معطوفا على الشمس في الآيات التالية و في غيرها:

"..و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره.."
الأعراف:54

"و الشمس و القمر و النجوم مسخرات بأمره.."
النحل:12
".. و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب.."
الحج :18

فالنجوم وحدها هي التي تطمس:
"فإذا النجوم طُمست"
المرسلات
و مجيء النجوم بالميم الكاملة يعني حتمية هذا الحدث.

و النجوم وحدها هي التي تنكدر :
"إذا الشمس كوّرت (1) وإذا النّجوم انكدرت(2)"
التكوير

و هنا نرى إستحالة الوصول إلى عمق البلاغ المبين دون دراسة الكتاب و إن كانت رؤية البلاغ المبين لمن يفقه بنيته يفتح الأبواب على فرضيات البحث. فاشمس تكوّر أي تتحول إلى جرم متناظر تماما و بتعبيرنا تتحول إلى كرّة قطرها ثابث في كل إتجاه و بتعبير الفيزيائيين فإنّ الشموس أي الأجرام المضيئة التي كتلتها في حدود كتلة شمسنا و ثلاث مرات كتلتها فحين تهوي تتحول إلى نجم ثاقب مكوّن من نوترونات تقترب سرعة دوارنه من سرعة الضوء Pulsar أو إلى قزم أبيض Nain blanche

أمّا النجوم فهي تنكدر و تطمس أي ينمحي ضوءها و تصبح لا تُبصر و ببساطة فالنجوم وحدها هي التي تتحول إلى "ثقب أ سود" أو ما يسميه الفيزيائيون اليوم : black hole أو trou noir بالفرنسية.

و بتحوله إلى ثقب أسود يُطمس النجم و ينكدر فلا يبصر إذ حتى الفوتونات (جزيئات الضوء) تسجن داخله بفعل جاذبيته الهائلة. و ورود الألفاظ التالية في سورة النجم و سياق الأيات:

"الأفق الأعلى"
"سدرة المنتهى"

لا يترك لنا شكا في أنّ المراد بالنجم هو كل ما يتحوّل إذا هوى إلى ثقب أسود. فليس هناك موجود في كوننا يحمل أفقا مبينا أعلى (لا متناهي) إلا الثقب الأسود فمن يتواجد في أفق الثقب سيرى أفقا لا متناهيا مظلم أمّا حدود هذا الأفق لبصر خارجي بعيد عن الأفق فهي مرتبطة بكتلته، فكلما كانت كتلة الثقب كبيرة كلما اتسع حد الأفق و سهل إبتلاع و كنس كل من يقترب من حدود الأفق.
و أما السدرة المنتهى فهي نقطة تركيز كتلة الثقب الأسودالتي لا تتجاوز مسافة بلانك
0001 000 000 000 0000 000 000 000 000 000 000, 0 متر

و قد تظهر هذه المعلومة النظرية مستحيلة بالنظر لتجربتنا الحسية اليومية، إذ كيف يعقل أن تتركز كتلة تبلغ مئات بل ملايين كتلة شمسنا في حجم يقترب من الصفر !!
إنّ ما يحدث في الثقب الأسود لا علاقة له بتجربتنا اليومية، فمفاهيم الزمن و المسافات تذوب كما يذوب الجليد و تبقى الوسيلة الوحيدة للإقتراب من الصورة رياضية بحتة و ذلك بالإستعانة بميكانيك الكم التي بنيت أسسها على نظرة رياضية بحتة.
و قد حاصرنا البلاغ المبين في قوله "إذ يغشى السدرة ما يغشى" ليعبر عن انجذاب أي موجود داخل الأفق إلى السدرة في حركة نحو المركز ليعطي للفظ السدرة مدلوله، و هنا نلاحظ ثانية إرتباط دلالة اللفظ في البلاغ المبين بدراسة الكون و معرفته، فدون هذا الإرتباط بالكون و معرفة سننه يستحيل ضبط مفاهيم ألفاظ القرءان و معرفة بنيته اللفظية.

و قد جاء القرآن بوصف لماهية الثقب الأسود في سورة التكوير :



إنّ ماهية هوى النجم حددت هنا بتفاصيلها فالنجم الهاوي يخنس و مع تحوله إلى ثقب أسود يكنس كل ما حوله ممن يقترب من أفقه. فالآيات تشير بوضوح أنّ رؤية الرّب تمت في الأفق المبين أو قريبا منه "قاب قوسين أو أدنى" إذ الافق يتمدد و يتوسع حسب ما يغشاه من المادة و ما يمتص مما حوله من مادة. فما رآه النبي هو ماهية الرّب تحديدا في حدود في الأفق المبين.
الثقب الأسود يفرز حول أفقه حقلا مغناطيسيا عظيما جدا يبلغ :
000 000 000 000 000 000 1 الحقل المغنطيسي الأرضي في المتوسط ، و قد يكون هذا الحقل هو سبب ظهور الرّب على هيئته:



رمز المد الموجي ~ في أوحى الأولى يشير إلى إتصال هذا الوحي و كأنّ صورة الرّب و ماهيته لم تكن مستقرّة إلى أن استقرت الصورة في فؤاد النبي بفعل "أوحى" الثاني دون رمز الإتصال الموجي و بقي النبي مشدودا إلى صورة سيدِّه شدّ العبد إلى سيدّه.

لنبي الكريم كان عبد ربّه في هذه الرحلة خاضعا لشروطه لا إختيار له فهو من هيأّه للرحلة بتركيب بصر "علّمه شديد القوى" و هو من أسرى به و هو من أوحى إليه ما رءاه وهو من أراه الأيات الكونية الكبرى.

رؤية ماهية الرّب تمت مرة ثانية رؤية و ليست إبصارا و بعدها رحلة العودة إنطلاقا من حدود الأفق إلى عمق الثقب الأسود "السدرة المنتهى" لأخذ طريق العودة إلى الكوكب الأزرق الأرض ثانية و هو ما تسميه السورة "المسجد الحرامـ " بالميم الناقصة على الميم للتأكيد على سعة المكان كما سنرى لاحقا. و أي جمال أكبر من هذا التعبير الحق :
"نزلة أخرى"
"سدرة المنتهى"
و في هذه النزلة تمت رؤية الرّب بصورة واحدة المشار إليه بفعل رأى (2) عكس المرة الأولى التي استمرت الرؤية لصور لهيئات متعددة متصلة للربّ قبل أن تستقر الصورة في عمق الثقب الأسود للرّب المشار إليه بفعل رأى دون رمز المد الموجي(1) تأكيدا للعبارات السابقة "فأوحى إلى عبده ما أوحى" و هو تعبير أنّ الظاهرة قويّة جدّا و أنّ هناك وقت تأقلم حتّى يبصر النبي الكريم ببصره الذي عُلّمه هيئة الرّب المستقرة :



و لكن ثمة سؤال محير ، إذ كيف يعقل أن يرى النبي الكريم الرّب و هو داخل الأفق حيث يستحيل الإبصار ؟
إنّ الآية تقول أنّ هذا الإبصار تمّ في الأفق و في داخل سدرة المنتهى و تجعلنا نعيد النظر في فهمنا لميكانيزمات الإبصار داخل الثقب الأسود فما سطرته الأية أنّ هذا الإبصار حقيقي و لم يحدث للنبي إرتباك بصري و لا وهم بصري :
"ما زاغ البصر و ما طغى".

البصر في القرءان وسيلة الإبصار و ليس هو العين حصرا، بل العين الحاسة عند الإنسان هي بصر من وسائل الإبصار إذ البصر قد يكون تلسكوبا أو ميكروسكوب أو نانوسكوب. و نعود إلى سورة النجم لنرى المقصود بالبصر المعبّر عنه بأل التعريف :

"ما زاغ البصر و ما طغى"
النجم:17

آيات النجم تقول أنّ النبي لم يكن حالما و لا نائما في هذا السفر بإيراده لفظ البصر و تختم الآيات هذا السفر بلفظ "لقد رأى من آيات ربِّه الكبرى". و لفظ رأى لا يعبرّ أنّ الإبصار حدث بحاسة العين مباشرة، إذ رأى في البلاغ المبين لفظ يتجاوز الحاسة إلى عمق الذات فهو لفظ من أفعال الذات (القلب بتعبير القرءان). إنّ البلاغ المبين لا يشتت سبل المعرفة و الوصول إليها و إن ظهر سبيل الحق مستعصيا لأول وهلة، فالقرآن لا يترك لنا إلاّ سبيلا واحدا في النهاية و لكنّه يكشف لنا في طريق بحثنا عن حقائق كثيرةمستبطنة تحملها آياته. فالمقصود بالبصر في الآية هو وسيلة إبصار خاصة هُيِّء لها النبي تهييئا لرؤية الآيات الكبرى الواضحة المستقرةالمتتابعة. الواضحة بوجود الألف الوتدية فوق الألف المقصورة في لفظ "كبرى"، و المتتابعة المتصلة بوجود رمز الإتصال الموجي فوق الألف الوتدية في نفس اللفظ. و بإتضاح هذا المعنى نكتشف أنّنا لم نتفاعل مع الآيات كما ينبغي إذ لو قرأنا آيات النجم ثانية من البداية لوجدنا أنّ هذا التهييء بدأت به الرحلة المعجزة من بداية السورة في قوله تعالى :
"علّمه شديد القُوى"
النجم:5
علّم في لغة البيان المبين هي وضع علامات لمن يُراد تعليمه، و قد تكون هذه العلامات جينية تسمع للإنسان بالتهيؤ لإستقبال العلم المحيط به في الكون الفسيح و العلم المبثوث في الآيات المنزلة في القرآن. فالإنسان يحمل برنامجا في ذاته و في نفس الوقت يحمل برنامج قراءة البرنامج (معلّم).
هذا المعنى الذي ذهبت إليه و استقر في ذهني بعد استقراء مجموع الآيات التي تورد شجرة ألفاظ علّم بدأ إشعاع معناه في الآيات التالية :



فالجوارح هي كل ما يجرح و قد تكون بهائم من جنس الكلاب أو آلات روبوتية فهي تعلََّم حتى لا تنقض كلِّية على فريستها و تكتفي بصيدها و تعليمها يتم إما بالتدريب أو بوضع أليات مانعة.
فالنبي عُلّم من القوى الملائكية التي صاحبته ببصر خاص قبل بدء رحلته إلى أفق الثقب الأسود نزلة ثم دخول إلى عمق الثقب الأسود "سدرة المنتهى" و عودة إلى المسجد الحرامـ في نزلة أخرى. و تتحدث السورة عن وسيلة إبصار الرّب و من جهة أخرى الحديث عن غاية الإبصار و بلوغه المقصد بالرؤية لتصور لنا الآيات اقتران هذا البصر الوسيلة بالنبي. أتراه وسيلة تقنية عالية أم تراه تهييء للنبي من داخل جسمه أم تراه شيئا آخر ؟ . هذا ما نترك الجواب عليه لمن يغوص أعمق في البلاغ المبين.

لن نختم موضوعنا دون أن نتطرق إلى آيات سورة الإسراء لتكتمل الصورة. و اكتمال الصورة لا أعني به نقصها في بقية ما عرضناه من آيات بل القرآن يثبث لنا انّ هذا التنجيم و التفريع للظاهرة الواحدة في كتاب الله هو شهادة على علو القرآن و استحالة مماثلته. ذالك أنّ أي كاتب يغامر بهذه الطريقة في تنويع تصوير الظاهرة الواحدة بطرق متنوعة يسقطه في الإختلاف و التناقض. و رأيي الخاص أنّ هذا التنوع في إيراد الظاهرة الواحدة من بين غايته تنبيه القارئ لوجود بنية رياضية في البلاغ المبين. و لندخل الآن عالم سورة الإسراء الفسيح :



قد سطرتُ لفظة "المسجد" متألمّا ذالك انّ هذه اللفظة سرى في دلالتها التحريف في مؤلفات قوم النبي الكريم في صحائفهم و مقولاتهم دون وعي. لقد جعلوا دليل المسجد هو المنسك تحديدا و قبل ذالك لغوا لغوا باطلا في دليل لفظ الصلاة في البلاغ المبين إذ جعلوه مرادفا للشعيرة التعبدية المعروفة بيننا لا تتعدّاها (أنظر بحث "الصلواة شعيرة أو مفهوم").
ومع تحريف لفظة مسجد، تحوّل دليل لفظ "المسجد الأقصا" في البلاغ المبين إلى المنسك المبني في أرض إلياء بعد وفاة النبي الكريم و إنزال القرآن، و لفظة "أقصا" وحدها تنفي هذه التسمية إذ إلياء ليست أقصى الكون و لا طرفه ولا مبرر لوصفها بالأقصى فكيف تحولّ "بيت المقدس" إلى مسجد أقصا ؟.
ومع أنّ هذا البحث ليس تاريخيا إلاّ أن سبب تحويل الإسم يرجع إلى الخلافات السياسية بين عبد الله ابن الزبير و عبد الملك ابن مروان في صراعهما الدموي للإستيلاء و التحكم في الحرم المكي الكعبة و فرض البيعة على الحجاج .
إنّ كاتب هذه السطور قد يُتهم بالخيانة للقضية الفلسطينية و محاربا للمقدسات، فليكن. فكاتب هذه السطور لا يعرف الخطاب السياسي و لا يحسنه و يتركه لمن يحسنه. أقول إذن و أؤكد أنّ البلاغ المبين حق فلا تختلف آياته، فآياته أُحكمت إحكاما و فصلت و ألفاظه وُضعت لتؤدي معنى لا غير و إن جهله الناس ووقفت تأويلاتهم عند حدًّ معين بحكم مستوى التراكم المعرفي الموجود عندهم.
المسجد الحرام ليس البيت الحرام ولا المشعر الحرام. المسجد ليس المنسك و لا الجامع، و لا الركوع هو السجود. و رأيي الذي أدافع عنه هو أنّ ألفاظ البلاغ المبين تفهم من داخله ووفق بنيته اللفظية التي لم تدرس بعد.
و لنعد لموضوعنا لنغوص في معنى السجود.
كل الموجودات تسجد لله و تسبح له في تفاعل لا تتداخل فيه، فكلها تُصلي (تتفاعل و لا تتداخل و هذا هو معنى الصلاة في البلاغ المبين) على بعضها، و في دلالة التسبيح الحركة و التغير حتى الهلاك :

"ألمـ تر أنّ الله يسبّح له من في السماوات و الأرض و الطير صافّات، كل قد علم صلاته و تسبيحه، والله عليم بما يفعلون"
النور:41

فالتسبيح و السجود يخص كل المخلوقات بما في ذالك الكائنات التي تظن أنّها تفلت من سنة السجود :



(ملاحظة : لم أسطر شيئا في الآيات السابقة و إنّما السطور في أصل البلاغ المبين)

لا يفلت إذن مخلوق من قانون السجود و العجب ان يحصر السجود في حركة جسمية خاصة و محددة او يُدّعى أن معنى السجود هو التذلل والخضوع وكأنّ التنفس ليس خضوعا.

فالتسبيح في لغة القرآن هو قانون تجديد الطاقة التي تخضع له جميع المخلوقات:

"فسبحان الله حين تمسون و حين تصبحون"
الروم 30/17

فالناس يجدّدون طاقتهم حين الركون إلى النوم في المساء لينطلقوا في الصباح و هذا ما لا ينبغي على الله المعبّر عنه في الآية ب "سبحان"، فهو المسؤول عن سنة التسبيح للكائنات و لا تجري عليه هذه السنّة مطلقا.

و سُنّة السجود هو قانون و برنامج سير الكائنات و تفاعلها فيما بينها ضمن القوانين الموضوعية.هذه القوانين تضبط حركة الكائنات و كأنها قوانين أزلية ليُيسمح لنا بمعرفتها و دراستها إذ لو كانت السنن تتحول بشكل طفري و سريع لاستحالت معرفتها.

أشير إلى قضية لها أهميتها في تحديد دلالة السجود و مشتقاته و هي مسألة تسطير الآيات التي يرد فيها السجود. فليست كل الآيات الواردة فيها لفظ السجود مسطرة، فالآيات التي ذكرت فيها قصة نفخ الروح في آدم و امتناع إبليس من السجود لم تسطّر :

البقرة :34
الأعراف :11
الحجر :30
الإسراء :61
الكهف :50
طه :116
ص : 73

وقد يُظّن أن عدم تسطير لفظ السجود في هذه الأيات راجع إلى أنّها خبرية تقرر و تقص ما حدث و لم يرد فيها أمر بالسجود حتّى تُسطر، و هذا غير صحيح إذ وردت آية في القرآن تأمر مريمـ بالسجود دون أن تسطر

أل عمران :43

ووردت كذالك آيات في البلاغ المبين ورد فيها ذكر السجود تقريرا و خبرا و مع ذالك سُطرت :

الرعد :15
النحل :49
الحج :18

و قد يقال أنّ هذه الآيات التقريرية وردت بصيغة "يسجد" التي تفيد الإستمرار و الإتصال من بداية خلقها، و هذا الإعتراض غير صحيح كذالك بدليل الآية التالية التي لم يسطر فيها فعل السجود :

"و النجم و الشجر يسجدان"
الرحمان 55/6

نحن مطالبون بدراسة كل الإحتمالات و محاولة الإجابة على كل التساؤلات و مجانبة طرق الجدل للدخول في طريق البحث، فالبلاغ المبين ينيرنا و لا ننيره و يرفع عنّا الأوهام و يحملنا إلى أعلى و لا نحمله، فمحاولات التمويه و الهروب لا تفيدنا في شيءإلاّ في تشويه مفاهيم القرآن بالظن. و نختم هذه الملاحظات الإبتدائية بالإشارة أنّ الآيات المسطرة تقترن برمز السهم الموّجه نحو أعلى



و قد يقترن إيراد هذا الرمز مع التسطير في نفس الآية:
(7/206؛19/58؛22/77،18؛25/60؛32/15؛53/62؛84/21؛96/19)
و قد يأتي إيراد الرمز في الآية التي تلي التسطير :
(16/49؛27/25؛41/37) أو بعد آيتين (17/107).
و قد يسطر لفظ السجود فقط :
(7/206/22/77؛25/60؛96/19)
و قد يُسطّر لفظ واحد مع لفظ السجود(خرّوا؛الله؛له؛لا) :
(13/15؛16/49؛19/58؛22/18؛32/15؛41/37؛53/62؛84/21)
أو يُسطر مع لفظ السجود لفظين :
(17/107؛27/25)

إنّ ما سبق يؤكد دون الحاجة إلى الغوص أنّ السجود و فعله لا يدل على حركة جسمية حصرا بل يمكن إعتبار هذه الحركة المتعارف عليها أنّها صورة حسية بسيطة لمدلول السجود في البلاغ المبين إذ لو كانت الحركة هي المقصودة لما أتت منفصلة عن رمزها (رمز السهم أعلاه) و لما سُطّرت ألفاظ أخرى معها و قبل هذا لأتت مسطرّة في كل آن في البلاغ المبين. إنّ تسطير لفظ السجود أو عدم تسطيره ليس اعتباطيا إذ هو الوحيد الذي أتى تسطيره في البلاغ المبين بهذه الكثرة مع لفظ الركوع الذي سُطِّر مرّة واحدة (ص 38/24) و لم يُسطر غيرهما من ألفاظ البلاغ المبين.
أتُرى أنّ "كتبة الوحي" هم من سطروا هذين اللفظين في آيات و نسوا تسطيرهما في الآيات الأخرى؟ أم تُراهم سطّروا ألفاظا إضافية مع لفظ السجود سهوا و غفلة ؟ أم تراهم وتلك مشكلة كبرى سطّروا لفظ السجود و قد سُبق بلام النفي (84/21)؟
الناس لا يدركون و لم يقتنعوا بعد أنّ القرآن نزل على قلب النبي خطّا و لفظا و أنّ النبي الكريم هو من خطّ القرآن بيده بوحي ربّاني مبثوت في قلبه و يستحيل أن أحدا شاركه في هذا و أقصى ما تمّ أنّ النساخ بعد وفاته نسخوا من نسخة النبي الأصلية و للشاك فيما أقول أسأله أن يبصر الرسم القرآني بتمعن.

الكائنات برمتها إذن تسجد لله :



و معرفة ماهية سجودها يحتاج إلى بحث و معرفة بدليل (ألمـ تر). فالرؤية تتجاوز حدود الإبصار إلى المعرفة القلبية و لا يمكن تصور سجود الكائنات في هذا الكون الفسيح بتنوعها بالحركة الجسمية التعبدية.
سجود الكائنات هو حركتها وفق برنامج مودع فيها. السجود إذن حركة وفق برنامج مودع في الساجد. فالكائنات تسجد بفعل برنامج مودع فيها (القوانين الموضوعية)، فالشمس و القمر و النجوم تسجد بحكم برنامج هداية مودع فيها تسير بمقتضاه والملائكة تسجد للإنسان بحكم البرنامج المودع فيها لتسمح لنا بمعرفتها و الإنسان يمكنه أن يسجد لبرنامج نفخ الروح المودع فيه شأنه شأن تنزيل الويندوز في الجهاز و قد يُشغّل البرنامج أو يبقى حبيس الرفوف، فبرنامج نفخ الروح فينا على أي حال ينتظر التشغيل. هذا البرنامج يطالبنا المولى لتشغيله و السير وفقه:



فمجتمع الأمن و الأمان بمختلف تصوراته و عقائده و لغاته(الذين آمنوا) مطالب بالتواضع في التعامل مع من حوله(اركعوا) و السير وفق منهج نفخ الروح (اسجدوا)الذي هو ببساطة:
- الإمتناع عن الإفساد في الأرض
- الإمتناع عن سفك الدماء
" قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء"
- التراكم و الإنتاج المعرفي " و علّم آدم الأسماء كلها"

و نخلص إذن بعد هذا إلى أنّ السجود حركة و سير وفق برنامج موضوع في الساجد نفسه. فإذا كان مفهوم السجود هو هذا فالمسجد هو مكان و موضع السجود فهو بهذا المعنى الكون كلُّه، و هو بهذا المخابر العلمية التي تدرس سنن السجود التي يسير عليها الكون الحي(بيولوجيا) و الميت (فيزياء), و المسجد هو المؤسسات التنفيذية في هيئة ما لسيرها وفق قوانين مرسومة. و البلاغ المبين يعبِّر عن هذا المعنى في قوله :



سُنّة الدفع بين الناس (التنافس) تمنع الهدم و التصدع و سقوط الأجزاء، و الهدم لا يدل على التصدع الشامل المُعبّر عنه في البلاغ المبين بالهد (مريم 19/90). فلولا سُنّة الدفع بين الناس و التنافس بينهم لهدمت :
صوامع
بيع :مشتقة من البيع، وهي أماكن للتجارة (بنوك، توثيق،...)
صلوات : أماكن رصد حركة المجتمع دون إعاقتها
مساجد : المخابر العلمية و المؤسسات التنفيذية...

المسجد إذن مكان حدوث السجود، فهو يعبر عن مكان و موضع سير البرنامج. فما معنى المسجد الحرام؟ و ما الفرق بين المسجد الحرام و المسجد الحرامـ ؟
و قبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي علينا أولاّ محاولة تحديد معنى الحرام في البلاغ المبين.
ورد لفظ حرام في القرآن بمشتقات عِدّة :

حَرَم / حُرُم /حُرُمات /حَرَام / مَحْرُوم/ مَحْرُمون.

و في دلالة الألفاظ السابقة قرار المَنع من الإقتراب من شيءمن سلطة عليا. هذا المنع ليس فيزيائيا، فحرية التجاوز و القفز على الحرام و الحرمات واردة. هذا المعنى يمكن استقراءه بترتيل مجموع الآيات التي آتى فيها اللفظ و مشتقاته.وورد فعل التحريم بالتشديد :

حَرَّم /مُحَرّم / مُحَرّمة.

هذا التشديد( ّ ) المُعَلّم به حرف الراء في لفظ حرم يعبِّر عن درجة أعلى في التحريم و تثبيثه بالشدّة فوق راءه لظهور سبب المنع و لنتأمل:

"قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرّما على طاعمـ يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنّه رجس أو فسقا أهّل لغير الله به؛ فمن اضطر غير باغ و لا عاد فإنّ ربّك غفور رحيمـ "
الأنعام:145

فالمَيْتَة هي البهيمة التي ماتت حتف أنفها دون أن يتدخل الإنسان في إماتتها كالطيور التي تموت بفعل حمى الدجاج، فهذه يمكن أن تكون حاملة لأمراض قاتلة.
و الدم ناقل أساسي للفيروسات.
و لحم الخنزير (كل لحم في حي اختلط ورجس بفعل الكائنات الميكروبية الفاعلة فيه و أصبح قاسيا غير صالح للإستهلاك بفعل كثرة الأوكسيدات نتيجة الهرم أو نتيجة ماهية البهيمة نفسها.
و ما أُهِلّ به لغير الله هو ما أثبتث البحوث عدم صلاح استهلاكه و في معنى الفسق في البلاغ المبين الخروج عن المعروف.
كل هذه المحرّمات واضح بائن سبب تحريمها، و الذي يضطر غير باغ أي بسبب سقفه العلمي المحدود و لم يثبث له العلم عدم صلاحيتها، والذي يضطر إستهلاك هذه الأنواع من غير عدو في حالة جوع مثلا، فإستهلاكه يغفره الغفور الرحيم، و الإنسانية تُحرّم على نفسها كل ما سطره البلاغ المبين و إن لم تقرأ حرفا من القرآن.
إذا كان المسجد إذن هو مكان و موضع سير البرنامج و إذا كان الحرام هو قرار المنع الأخلاقي من سلطة عليا و ليس منعا فيزيائيا، فما مدلول جمع هذين اللفظين؟.

المسجد الحرام معرّف فهو معروف في البلاغ المبين و لا نملك إلاّ استنطاقه لتحديد مكان السير على البرنامج و مكان قرار المنع. و لن نذهب بعيدا فالمكان هو موضع نفخ الروح في آدم و قرار المنع هو منع آدم و حواء من الإقتراب من البشر الهمج (أنظر بحث "ءادم و شجرة الهمج). و المسجد الحرام بمدلوله الحسي المتعارف عليه بحدوده الجغرافية الحالية قد يكون هو نفسه الموضع الذي وقع فيه نفخ الروح و قد يكون امتداد له في المدلول إذ فيهما يُحْرمُ سفك الدماء و الإفساد في الأرض، و هذا هو المعنى الأساس في برنامج المنع (أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء). و البلاغ المبين لا يتركنا في حيرتنا بل يقدم لنا المدلول المحدد الدقيق لمدلول المسجد الحرام في إطار الإختيارين السابقين فماذا يقول البيان المبين ؟
ورد رسم المسجد الحرام برسمين. فقد ورد برسم (المسجد الحرام) في الآيات التالية :



فالمسجد الحرام متعلق ببرنامج المنع بالإختلاط بالهمج و هو منع متسع في حدوده الجغرافية (الحرامـ بميم الإتصال) و إن كانت حدوده الأولى مضبوطة إلى اليوم (الحرام).
و بعد هذا العرض نصل إلى مفهوم المسجد الحرامـ في أول سورة الإسراء(17/1) وهو الأرض جميعا فهي بكل الأشكال مسجدا حراما بحكم السياج المحاط بها و حفظها من الدمار بحقلها المغنطيسي الحافظ لقميصها و الأحياء فيها، و هي في هذا امتداد لحدود الحفظ الأولى التي وُضِعت لآدم لحفظه من الهمج، فهي حرام عليه الخروج منها و محرّمة عليهم. والأرض بهذا مسجدا حراما لإصدار السلطة الربّانية قرار منع سفك الدماء بيننا و قرار المنع من الإفساد فيها. وتمت رحلة النبي الكريم من المسجد الحرامـ إلى المسجد الأقصا (و ليس الأقصى فالرسم القرآني بعد خطير ينبغي تأمله) :



و المسجد الأقصا هو إذن موضع السجود الأقصاالذي يعني موضع وصول السنن إلى حدودها الأقصى في السير و هذا ما يسميه الفيزيائيون اليوم ASSYMPTOTIC LAW و هي ما يحدث داخل سدرة المنتهى عمق الثقب الأسود المحدود بأفقه الأعلى كما سبق شرحه و التفصيل فيه من قبل. هذه الرحلة تمت ليلا أي في حالة عدم اتضاح الرؤية للنبي في حال رحلته وهو ما يشير ربمّا إلى رحلة في أنفاق الجاذبية المعروفة في نظرية الجاذبية العامة الكمية RELATIVISTIC QUANTUM THEORY إذ في هذه الأنفاق تصير الرحلات مهما كانت مسافتها لحظية، و تبقى هذه المسألة نظرية يصعب تصديقها لصعوبة فهم و استكناه مفاهيم النظرية النسبية العامة متصلة بنظرية الكم بطريقة تتماشى و تجربتنا اليومية، فهاتين النظريتين لا يمكن فهم نتائجهما إلاّ رياضيا.
هذا المسجد الأقصا بورك حوله أي في أفقه بإظهار ماهية الرّب و ما يحمل هذا الموضع من آيات الله الكبرى.
آية الإسراء قرنت مباشرة بالحديث عن إيتاء موسى الكتاب إشارة إلى وحدة المُكلَّف بمحمد و موسى و هو ربّ كليهما و حُرّم موسى من رؤيته لأنّه طلبها و أعطيها النبي الكريم و لم يسع إليها.
و هكذا وصلنا إلى نهاية المطاف. فالنبي كُرِّم في برحلة إسرائية لصبره العظيم ضد مناوئيه من قومه و من حولهم لتستقر نفسه الكريمة و تدرك حقارة أفكار هؤلاء و هزلها أمام الرسالة التي استودعها وليرى هذا النبي الرؤوف ببصره ما يحلم برؤيته أي راسخ في العلم. لقد أبصر و رأى من آيات الله الكبرى. و للأسف أنّ روايات المحدثين فيما سموه بحادثة الإسراء و "المعراج" شوهت آيات النجم و التكوير و الإسراء و جعلت عليها غشاوة حاولنا في هذا البحث السريع إزالتها لنفتح طريقا لقراءة تبتعد عن وثنية الرؤيا و خرافات المحدثين و لنتعامل مع النص القرآني مباشرة و دون واسطة و سأعرض قريبا بحثا في رؤية هولاء المحدّثين لحادثة الإسراء و تناقضهم مع ءايات القرءان.

و في النهاية علينا أن نلاحظ رحمة من صاغ القرءان و إحترامه للسقف المعرفي لكل جيل و كأنّ الصحيفة المنزلة تُفْتح في كل آن لتُقرأ وفق السقف المعرفي دون أن تنغلق على قارئها. و نحن في هذا العصر بحكم بعض الكشوف الكونية نرى ألفاظها أنصع من ضوء الشمس و نرى تعابيرها عين كلام أي فيزيائي عن ما يحدث في عمق الثقب الأسود و من يأتي بعدنا سيُعمّق من نظرته للسورة و للأيات دون أن تتناقض قراءته مع قراءتنا ما دمنا نتعامل مع القرءان بالمنهج الصحيح.

الأحد، 25 أكتوبر 2009

عقوبة السجن وصمة عار في جبين البشريه



هل من أسباب ما تقف وراء شح الدراسات والأبحاث والمقالات التي تتناول تاريخ ونشأة السجون على الشبكة العنكبوتية (الانترنت)؟؟، وهل من سر ما يقف وراء الصمت المطبق من الكتاب والمثقفين والمفكرين والمتخصصين حول تقييم عقوبة السجن؟؟، وهل خطر ببال أحد يوما أن ينظر ويبلو ويُقَيِّمَ عقوبة السجن ويرى مدى صلاحية تلك العقوبة في إنزالها بالجنس البشري؟؟ وهل مثل تلك العقوبة تليق بآدمية الإنسان أم أنها مهينة وسالبة لآدميته؟؟. إن الكتاب والمثقفين والمفكرين هم أكثر الناس عرضة لمهانة وإذلال عقوبة السجن إلا أنني ألمس منهم صمت مخيف حول تفنيد ومناقشة وتقييم تلك العقوبة القذرة.


إن كل ما اطلعت عليه من كتب ومصادر ودراسات حول علم العقاب والمؤسسات العقابية وجدتها لم تتناول تلك العقوبة إلا من جانب التعريف بالسجون وأنواعها ونشأتها وتاريخها وأطوارها عبر العصور المختلفة وحقوق السجناء وطرق معاملتهم. وقد خلت كل تلك الدراسات والأبحاث والمصادر تماما من أي تقييم يذكر لتلك العقوبة القذرة التي تعد وصمة عار في جبين الجنس البشري كله، الذي تواضع على تلك العقوبة وقَبِلَ أن يُعَاقَبَ بها بني جنسه من دون أي تقييم لها أو وضعها في ميزان العدالة والحق والأخلاق، ومن جهتي هذه محاولة متواضعة مني لتقييم عقوبة السجن وكشف أنها عقوبة غير صالحة لعقاب الجنس البشري، وكذلك محاولة مني لشحذ همم الكتاب والمثقفين والمفكرين لتكثيف الدراسات والمقالات حول تلك العقوبة وتقييمها من جهة مدى عدالتها وإنسانيتها وأخلاقيتها من عدمه، وتبيين مدى صلاحيتها أو عدم صلاحيتها للجنس البشري، ومحاولة مني كذلك لإثارة أفكار الكتاب والمثقفين والمفكرين لإعادة النظر في الفكر العقابي الحالي وتقييمه وخاصة عقوبة السجن، ومحاولة إيجاد عقوبات بديلة لها.

وأذكر القارئ قبل أن يتلو هذه الفقرات أن يجعل لنفسه فرقانا بين ما يكتبه المتخصصون في كتبهم وأبحاثهم ودراساتهم من لوائح وشروط وآداب وحقوق مثالية للسجناء وما يجب أن يكون عليه السجن والسجناء وبين الواقع المهين والأليم لحال السجن والسجناء على الأرض.


## عقوبة السجن صناعة من؟؟ :


عقوبة السجن صناعة بشرية شيطانية بامتياز، لم يأت بها نص على الإطلاق في أي تشريع إلهي، ولم يحدث أن عاقب بها أي من الأنبياء والمرسلين أحدا، ولم يشرعها الله في أي رسالة من رسالات الأنبياء والمرسلين على مدار التاريخ الديني الإلهي كله، وإنما كانت تلك العقوبة من بنات أفكار شواذ الطغاة والمستكبرين في كل عصور التاريخ، وسجن فرعون موسى الذي ذكر في القرآن وكذلك سجن عزيز يوسف شر شاهدين على ذلك.


## التعريف بالمؤسسات العقابية (السجن) :


بعد أن يصدر القضاء كلمته في قضية ما، ويتم تحديد نوع المعاملة أو العقوبة التي يلتزم المذنب بتأديتها سواء في صورة عقوبة بأنواعها المختلفة أو كانت تدبيرا احترازيا كرد فعل لهذه الجرائم أو الذنب الذي وقع من المتهم، تبدأ مرحلة تنفيذ هذه العقوبات وذلك في أماكن مخصصة لذلك وهي ما تعرف باسم المؤسسات العقابية أو مؤسسات التنفيذ العقابي (السجون). فيقع الدور الأساسي في ذلك على عاتق إدارة هذه المؤسسات لوضع الحكم الصادر موضع التنفيذ والقيام بتطبيقه طبقا لما تحكم به اللوائح والقوانين المنظمة لتلك المؤسسات والتي ينص عليها القانون في مثل هذه الشئون. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن أي عقوبات أو تدابير احترازية تصدر من القضاء على المتهمين بالمؤسسات العقابية التي يتم فيها تنفيذ هذه الأحكام والاهتمام يكون من جميع النواحي. وقد قامت دراسات متعددة وكثيرة حول مؤسسات التنفيذ العقابي تمثلت في مواقع إنشاء هذه المؤسسات ومكوناتها أو الوحدات التي تتكون منها مثل العنابر والورش والملاعب والمطاعم، وما يجب أن تكون عليه حتى تقوم بالدور المنوط بها أو الغرض المرجو من قيامها. كذلك قامت دراسات عديدة حول الناحية الإدارية، حيث تلعب الناحية الإدارية في مثل هذه المؤسسات دورا مهما وبارزا في هذه المؤسسات حيث "تقوم بالاتصال المباشر بالمحكوم عليهم وتشرف إشرافا كاملا على تنفيذ الحكم ، وبالتالي هي المنظمة لنمط الحياة داخل المؤسسات والأعمال التي توكل إلى النزلاء والتهذيب والتدريب اللازم"( ).

كذلك فإن هذه المؤسسات تحدد المعايير التي يقوم عليها تقسيمها حسب سن أو جنس المحكوم عليه، أو حسب نوع العقوبة، أو حسب المركز القانوني لمن يودع فيها إذا كان محبوسا احتياطيا أو محكوما عليه، ولهذا وجدت مؤسسات خاصة بالأحداث، وأخرى يتم الفصل فيها بين النساء والرجال فأنشئ لكل منهما مؤسسات مستقلة، كما أدخل نظام مؤسسات معتادي الجرائم والمرضى الشواذ"( ).

كذلك فقد تنوعت هذه المؤسسات من حيث شدة الحراسة، فهناك مؤسسات مغلقة ومؤسسات مفتوحة وثالثة شبه مفتوحة، ويعد تقييم أو تمييز هذه المؤسسات إلى مؤسسات مفتوحة وأخرى شبه مفتوحة، وثالثة مغلقة هي الأساس في التقييم، ولكل منها تاريخه وأهميته في التفريد التنفيذي للعقوبة، وذلك "بحبس النزيل منفردا أو مع جماعة، أو الجمع بين النظامين بالعمل نهارا مع الآخرين والانفراد ليلا، ولكل هذه الأنظمة مبرراتها التي أدت إلى وجودها في حقل العمل العقابي"( ).


## إدارة المؤسسات العقابية (السجون) :


المصلحة أو الهيئة الرئيسية المسئولة عن هذه السجون هي مصلحة السجون وهي عادة ما تتبع وزارة الداخلية في جميع أنحاء العالم. وقد وجد في الآونة الأخيرة في بعض الدول الاتجاه نحو إخضاع هذه المؤسسات لوزارة العدل"( ). ويرأس المنشأة العقابية مدير مسئول عن سير العمل بها، وهو ملتزم ومكلف بأعباء كثيرة منها العمل على تطبيق الأساليب الجديدة في المعاملة العقابية، وتدريب العاملين في المؤسسة، وإدارتها من الوجه الاقتصادي والوجه الإداري، والإشراف على حساباتها. ويعاون هذا المدير مجموعة أخرى من المساعدين نظرا لتشعب العمل وتعدده في هذه المؤسسات، فهناك مساعد المدير للشئون الإدارية حيث يشرف مباشرة على العاملين بالمؤسسة، وآخر للشئون التربوية والاجتماعية، وآخر لشئون التصنيف وخلافه، وكل هؤلاء يباشرون ويقومون بأعمالهم وأعمال المدير في حالة غياب كل منهم في مجاله. كذلك هناك عدد من الفنيين، وهم كثيرون ومتعددون في مثل هذه المؤسسات، فهناك الأطباء والممرضون للرعاية الصحية والإشراف الطبي على النزلاء وذلك لأن القانون يكفل للنزيل أو السجين الرعاية الصحية بكل صورها. وهناك أيضا الأخصائيون في الشئون الدينية مثل الوعاظ لرعاية النزلاء من الناحية الفكرية والعقائدية، لتشجيعهم على القيام بالفرائض الدينية حتى انتهاء فترة العقوبة المفروضة عليهم. وهناك الأخصائيون في شئون التعليم من المدرسين وأمناء المكتبات ويوجد كذلك مدربون رياضيون ويمثلون دورا مهما في النشاط اليومي للنزيل، وأخيرا هناك الحراس ولا يقتصر دور الحراس على حفظ الأمن والنظام فقط ولكن أصبح لهم دورا تهذيبيا وذلك بتعميق الصلة مع النزلاء ومساعدتهم أكثر من مراقبتهم وهو ما يؤدي الغرض من سلب حرية المحكوم عليه، ولا بد للعاملين في هذا المجال التزامات وقوانين يعملون من خلالها. ومنها مبدأ ضرورة عدم إثبات سلوك يناقض النظام القانوني للمؤسسة والغرض منه وجوده بها، حيث يجب أن يكون سلوك العامل بالمؤسسة مثاليا للدرجة التي يراها النزيل ويتعلم منها"( ).


## تطور المؤسسات العقابية (السجون) في العصور السابقة :


"لم تكن السجون قديما إلا مكانا يعزل فيه المحكوم عليهم بعقوبات بدنية انتظارا لتنفيذ الحكم، ومع التطور وظهور العقوبات السالبة للحرية أعدت هذه المنشآت لاستقبال المحكوم عليهم وبقائهم فترة العقوبة داخلها، ولم تكن أيضا أسعد حالا بالرغم من هذا التطور حيث بقيت مكانا لعزل النزلاء عن المجتمع اتقاء شرهم حتى لحظة الإفراج عنهم"( ). وبالتالي فإن فكرة السجون أو المؤسسات العقابية ليست حديثة بل هي من أقدم العصور. وإليك التطور التاريخي لنشأة السجون في مختلف العصور:


• السجون في زمن فرعون موسى وعزيز يوسف :

يعتقد بعض الناس أن المؤسسات العقابية أو السجون وهي أقدم النظم والمؤسسات العقابية ظهورا في التاريخ لا يتعدى عمرها قرنا واحدا من الزمان، ولكن الحقيقة غير ذلك، فقد ذكر القرآن الكريم أن السجون كانت موجودة منذ عصر فرعون موسى، وكانت موجودة في عهد عزيز مصر الذي اشترى النبي يوسف عليه السلام، وقد ذُكِرَ السجن في القرآن الكريم عشر مرات مرة عن سجن فرعون موسى، وتسع مرات عن سجن عزيز مصر الذي سجن النبي يوسف، قال تعالى عن فرعون:

(قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ) (29_ الشعراء).

وقال تعالى عن يوسف:

(قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (25_ يوسف).

(وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ) (32_ يوسف).

(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (33_ يوسف).

(ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (35_ يوسف).

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) (36_ يوسف).

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ) (39_ يوسف).

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ) (41_ يوسف).

(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (42_ يوسف).

(وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) (100_ يوسف)


• السجون في النظام العقابي الإسلامي :

وقد عرف النظام العقابي ومؤسساته في فترة صدر الإسلام أي منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان "فقد عرف المسلمون نظام المؤسسات العقابية (السجون) منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وكان عمر قد اشترى بيتا أو دارا في المدينة وخصصها لإنزال الأشخاص المحكوم عليهم في جرائم التعزير، وقد تبعه كل ولاة البلدان الإسلامية، فاتخذوا بدورهم سجونا، يوضع فيها كل من يحكم عليه بحكم من التعازير( ) أو غيره من الأحكام. إذن ليست فكرة العقاب في أماكن منعزلة أو فكرة إنشاء السجون أو المؤسسات العقابية جديدة بل هي قديمة قدم التاريخ.


• نظام السجون في العصور الوسطى :

تعتبر إنجلترا من أولى دول العالم التي عرفت نظام وتنظيم السجون، وقد كان الأفراد المحكوم عليهم قبل ذلك يودعون في القلاع والحصون الحربية، ويعتبر السجن الأول الذي أقامته إنجلترا وهو سجن (بريد ويل) وقد أطلقت عليه وقتئذ دار الإصلاح قد أنشئ هذا السجن في عام 1552 م. وقد خصصت الحكومة البريطانية هذا السجن أو هذا الدار للمسجونين غير الخطرين، وكان يتبع فيه نظام إخضاع المسجونين للعمل والنظام حتى يمكن إصلاحهم وردع الآخرين دون الاهتمام بحقوقهم أو أشخاصهم ودون مراعاة لسنهم أو لحالاتهم الصحية بل كانت القسوة والعنف هي الغالبة على التعامل داخل هذا السجن.


• تطور نظام السجون في القرن الثامن عشر :

"شهد القرن الثامن عشر بداية حقيقية لتطور السجون أو بالأصح بداية ظهور السجون في الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا حيث كانت مكانا لإيداع المحكوم عليهم، دون الاهتمام بهم سواء من حيث العلاج أو الغذاء، أو الكساء أو الجانب الأخلاقي مما أدى إلى تفشي الأمراض وانتشار العادات السيئة اللاأخلاقية بينهم"( ). من الملاحظ هنا أن كل السجون التي ظهرت في هذه الآونة وفي تلك البلاد بالتحديد لم تكن تحظى باهتمام الحكومات أو الجماعات المسئولة عنها بل كانت تعاني من الإهمال الجسيم.


• تطور نظام السجون في القرن التاسع عشر :

يعتبر مطلع القرن التاسع عشر هو البداية الحقيقية لتطور المؤسسات العقابية تطورا حقيقيا، وكان ذلك على يد رجال الكنيسة، فقد كان رجال الدين ينظرون إلى الجريمة على أنها خطيئة وإثم، مما يتطلب من المخطئ أو المذنب أو المرتكب لهذه الجريمة التوبة، وهو ما يتحقق بإيداع الآثم دير أو حبسه حبسا انفراديا، لأن الانفراد يجعل الفرد أكثر تقربا إلى الله، حيث تساعد العزلة الإنسان على الطاعة والتوجه إلى الله بعيدا عن تداخلات الناس أو ما قد يسببه الضجيج من صرف لهؤلاء المخطئون عن التوبة التي تلزمهم. من أجل هذا نادت الكنيسة بأن يكون الحبس انفراديا حتى يتاح للمحكوم عليهم فرصة التوبة إلى الله( ). وقد خطت الكنيسة خطوة أخرى في سبيل الأخذ بنظام دار يودع فيها الأحداث أو صغار السن، ثم أنشئ في عام 1835 سجن النساء، ويتبع ذلك إنشاء عدة سجون في شمال وجنوب إيطاليا وكان العمل هو أساس إصلاح المحكوم عليهم وتهذيبهم.

وصاحب هذه الفكرة ولازمها وهي أحدث الأفكار التي عمت أرجاء العالم والتي تنادي بالحرية والحقوق العامة والمساواة، تطورا في السياسة العقابية، فقد ألغيت العقوبات البدنية التي تستند على الانتقام من المحكوم عليه وظهرت حركات الإصلاح في نظام السجون، فظهرت أولى هذه الحركات في ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وبصفة خاصة ما يعرف بحركة الكويكرز، وفي عام 1682 صدر قانون يتضمن مجموعة من الأفكار الحديثة من حيث ضرورة فصل صغار السن عن الكبار، وتعليمهم والاهتمام برعايتهم، وفصل النساء عن الرجال، وتحويل السجون إلى أماكن للعزل والعمل، وأنشئت لذلك دور للعمل تشتمل على أقسام للرجال وأخرى للنساء. ووفقا لهذه الأفكار أنشئ عدد كبير آخر من السجون في فيلادلفيا وغيرها وقد روعي في هذا السجن الذي أقيم في فيلادلفيا سجن روعي فيه الفصل بين المجرمين مرتكبي الجرائم الخطرة ومرتكبي الجرائم غير الخطرة، وكانت الطائفة الأولى تعزل بدون عمل، أما الطائفة الثانية فكانت تعمل بصورة جماعية.


• نظام السجون في بنسلفانيا :

"ونتيجة لنجاح هذه التجربة في تحقيق الغرض من المعاملة العقابية، عملت هذه السجون في عدة ولايات، فأنشئ سجنان جديدان في عامي 1818، 1819 يقومان على العزل التام بين المسجونين، خصص لكل سجين زنزانة خاصة يقيم ويعمل فيها دون أن يسمح له بالاختلاط من المسجونين الآخرين، أو يسمح له بالتدخين أو القراءة. وقد عرف هذا النظام بين علماء العقاب بنظام بنسلفانيا( ). وقد قامت فكرة هذا النظام على فكرة أن إصلاح المحكوم عليه لا يكون إلا عن طريق التكفير والتوبة، وهو ما يتطلب ضرورة العزل التام بين المسجونين إلا أن فكرة العزل التام دون عمل أثبتت فشلها فلم تحقق إصلاحا أو تقديما للمسجونين، "بل كثيرا ما كانوا يتعرضون للاضطرابات النفسية العنيفة، ولقد أثبتت الدراسات الاجتماعية الحديثة أن إعادة التكيف الاجتماعي للأفراد يقتضي تدريب المحكوم عليه على التعامل مع غيره من الأفراد خلال فترة إيداعه، حتى يمكنه تكوين علاقات تقوم على أسس سليمة مع الأفراد تسهل عليه تآلفه مع المجتمع، وهذا بالإضافة إلى أن ذلك النظام يتطلب تكاليف باهظة لإعداد زنزانة مستقلة لكل سجين، كما أن العمل داخل السجون يحقق أهداف العقوبة في الإصلاح والتقويم( ).

لقد كانت كل فكرة أو كل نظام مما سبق يتمتع ببعض الإيجابيات وأيضا كانت له بعض السلبيات التي عملت كل الأنظمة منذ نشأة الفكرة نفسها على تلافيها والحد من وجودها. ومن أهم الإيجابيات التي ظهرت حتى هذه الفترة إلغاء العقوبات البدنية التي تستند إلى الانتقام من المحكوم عليه، كذلك وجدت بعض الإيجابيات التي نتجت عن قيام المسجونين بالعمل جماعة. أما ما ظهر من سلبيات فقد كانت كثيرة ولا بد من تلافيها ومنها:

أن كثيرا من هؤلاء المساجين كانوا يتعرضون للاضطرابات النفسية العنيفة مما يزيد توترهم، وينعكس ذلك على سلوكهم فيصعب اندماجهم مع أفراد المجتمع بعد خروجهم من السجن.


• نظام السجون في أوبرن :

نظرا لما وضح من سلبيات وما تعرضت له الأنظمة السابقة من الانتقادات فقد ظهر نظام جديد، في عام 1823 في ولاية أوبرن عرف بنظام أوبرن، ويقوم على نظام العمل الجماعي بين المسجونين، كما يجمع المحكوم عليهم أثناء الطعام وأداء الفرائض الدينية، "ووسائل التهذيب والتأهيل كالمحاضرات والكشوفات الدورية وخلافه، ثم يفصل بينهم ليلا في زنزانات مستقلة للمبيت، ويقتضي تطبيق هذا النظام الصمت بين النزلاء وعدم تبادل أي حديث أثناء فترة العمل الجماعي وهذا ما اتبع في سجن أوبرن في أمريكا"( ).

ويتميز هذا النظام عن سابقيه بأنه يعطي الفرصة للحياة في السجن مثل الحياة الخارجية، وذلك بالعمل الجماعي نهارا والانفراد ليلا، وهذا يؤدي إلى تفادي الأضرار التي يمكن أن تحدث من جراء قضاء الليل في جماعة، ومدى تأثير ذلك في البرامج التأهيلية، وفضلا عن ذلك يتميز هذا النظام بقلة التكاليف بالمقارنة بنظام بنسلفانيا، حيث الزنزانات الانفرادية بقضاء الليل لا تشتمل على أي مرافق خاص، وأخيرا يقترب هذا النظام من الطبيعة البشرية، فلا يؤثر على الحالة الصحية والنفسية للنزلاء حيث يمكن توجيه البرامج الخاصة بالتأهيل في حرية مطلقة. ومع هذا فقد انتقد هذا النظام على أساس صعوبة تطبيق قاعدة الصمت وعدم تبادل الأحاديث أثناء العمل نهارا لتعارض هذا مع الطبيعة البشرية، وخاصة أن تطبيقها اعتمد على قسوة الحراس وسياطهم المسلطة على النزلاء إذا ما تم بينهم تبادل أي حديث، ومع ذلك فهذا النقد لا يجد له مكان حاليا في السجون التي تطبق النظام الأوبرني، حيث خففت كثيرا من قاعدة الصمت التي عرفت قديما.


• النظام التدريجي (النظام الايرلندي) :

"هو آخر النظم التي توصلت إليها النظم العقابية بعد تطورها الطويل، حيث يحاول هذا النظام الجمع بين مزايا جميع الأنظمة السابقة، وذلك بتقسيم مدة العقوبة السالبة للحرية أو التي حكم بها على المخطئ إلى ثلاث فترات، تتسم الأولى بالشدة والقسوة، ثم تندرج المعاملة إلى مرحلة أخف وطأة حتى يصل المحكوم عليه في المرحلة الثالثة إلى أيسر النظم التي تتشابه إلى حد كبير مع المجتمع الخارجي، وذلك حتى يكون ممهدا للإفراج النهائي والتآلف مع الجماعة. وهذا التدرج في المعاملة يساعد كثيرا في حث المتهم على إصلاح نفسه من أجل الحصول على معاملة عقابية أفضل كمكافأة له عن مسلكه الحسن( ). ويتميز هذا النظام الذي طبق لأول مرة في ايرلندا ومن هنا جاءت التسمية، "الجمع بين نظم العقاب المعروفة في نظام واحد، فيبدأ بمرحلة صعبة من الحبس الانفرادي حتى ينتهي بالسجون المفتوحة أو شبه المفتوحة، وكل هذا مع تطبيق البرامج التأهيلية والتهذيبية اللازمة لكل مرحلة، وبحسب تقدم المتهم في تقبل البرامج التنفيذية أثناء فترة العقوبة، وحتى بعد الإفراج إذا ما وضع تحت نظام الإفراج الشرطي( ).

وقد تم توجيه أكثر من انتقاد لهذا النظام على أساس أنه يجمع بين مراحل متناقصة ومختلفة في المعاملة العقابية. ومن أمثلة هذه الانتقادات أن هذا النظام يجمع بين مرحلتين مختلفتين فبعد عزل المحكوم عليه في سجن انفرادي تفاديا لاختلاطه مع غيره من المنحرفين، فإن المرحلة الثانية منه وهي مرحلة العمل الجماعي تؤدي إلى اختلاطه بغيره من المحبوسين، وبالتالي تفقد المرحلة الأولى ويفقد السجين ما قد استفاده بعد دخوله في المرحلة الثانية. وكذلك هناك من وسائل الإصلاح التي تجدي مع بعض النزلاء قد لا تستعمل معهم منذ وصولهم إلى المؤسسة نظرا لعدم جواز اتباعهم في المرحلة الأولى لتنفيذ العقوبة، وبالتالي تفقد جدواها في المرحلة اللاحقة، وذلك مثل السماح بالزيارات والمراسلات وخلافه. ومع ما وجه لهذا النظام من انتقادات فإنها لا تؤثر عليه حيث يقدم فعلا أفضل الوسائل في نظم التنفيذ العقابي، مما جعله محل تطبيق معظم دول العالم في العصر الحديث.


أما تطور أحوال السجون في العالم العربي فلا توصف ومهما تحدثت أو تحدث غيري فلن نستطيع نقل الواقع الحقيقي (للتطورات الهائلة) داخل السجون العربية.


## نظرة نقدية لعقوبة السجن :


المرء الذي يرتكب جرما ما لابد وأن يحق عليه العقاب هو وحده نظير ما ارتكب من جرم من دون أن يكلف غيره شيئا نظير عقوبته تلك، لكن في نظام عقوبة السجن تنفق الدول الأموال الطائلة وترصد الميزانيات الضخمة لبناء السجون وتأمينها وحراستها وتوفير قدرا من الطعام والشراب والملابس والأدوية وغيرها من الخدمات التي تبقي على المساجين أحياء خارج أسوار الحياة، فلك أن تتخيل تلك المبالغ الطائلة التي تنفقها الدول سنويا وبصفة مستمرة على ماذا؟؟ على عقاب المذنبين والمجرمين!!!، فهل يقر ببال عاقل أن تقتطع الدول من أقوات الشعوب تلك المبالغ الطائلة التي تنفقها على السجون والمسجونين لعقاب المذنبين والمجرمين، في حين أن الشعوب البريئة الآمنة والمواطنون الصالحون لا يجدون لقمة العيش، أي خلل هذا وأي عقوبة تلك؟؟!!.


ناهيك عن أن عقوبة السجن ليس لها أي أثر على تراجع معدلات الجريمة في العالم فلم تمنع عقوبة السجن جرما ولم تحد من جريمة، فالجريمة في ازدياد مستمر حتى ممن سبق وأن عوقبوا بالسجن على جرائم قد ارتكبوها من قبل. بل إن عقوبة السجن قد تزيد المجرم إجراما وتفقده الثقة بنفسه وتشوهه أمام نفسه والآخرين، فلم يفلح السجن يوما في إصلاح كل سجين أو تحويله إلى مواطن صالح، ولم يفلح السجن كذلك في إحداث تغييرات في معتقدات السجناء أو أفكارهم إن لم يتغيروا هم من أنفسهم وبأنفسهم، ناهيك عن عدم عدالة عقوبة السجن لمماثلة ما يسمى بجرائم الفكر والنشر والتعبير في عالمنا العربي، وهل يصلح السجن عقوبة لمثل تلك القضايا؟؟!!، وهل من الحق والعدل في شيء أن نطلق على مثل تلك القضايا (جرائم) ثم نعاقب أصحابها بسلب حرياتهم والقذف بهم خارج أسوار الحياة؟؟، ناهيك عن بعض الجرائم التي لا تتناسب مع العقوبة إطلاقا سواء بقصر مدة العقوبة أو بطولها، فالعدالة في العقاب تقتضي أن تتماثل السرعة في إنجاز العقوبة كالسرعة في إنجاز الجرم وهذا ما لا يتوافر في عقوبة السجن قط، فالجاني يرتكب جرمه في دقائق أو ثواني معدودة أو سويعات معدودة، أما المجني عليه في المقابل يتألم من جرم الجاني ولكن سرعان ما يتبدد الألم ويزول في ساعات أو أيام معدودة، بينما الجاني يتألم كل لحظة وكل ثانية وكل دقيقة وكل ساعة لسنوات طويلة أو لشهور طويلة داخل السجن، والمجني عليه يتركز ألمه في جزئية واحدة، بينما الجاني المسجون آلامه في كل شيء، وذلك قمة الإجحاف والظلم في حق المذنب. فهل من العدالة مثلا أن يسرق شخص من شخص ألف جنيه أو أكثر فيسجن لمدة عام وتترك أسرته من ورائه من دون عائل يقوم على رعايتها مدة تنفيذ العقوبة. بل وانظر لحاله بعد خروجه من السجن حين يجد زوجته مدينة وأولاده مشردون وغير ذلك من تبعات بشعة تلحق بأسرة السجين أثناء سجنه وبعده، فعقوبة السجن لا تقع على السجين وحسب بل هي عقوبة لأهله وذويه كذلك، ويكفي عقوبة السجن إجحافا وظلما وسفاهة ومهزلة أنها لم تُرْجِعْ يوما حقا واحدا مسلوبا لمُعْتَدَى عليه، إذ ما الفائدة التي ستعود على المجني عليه من سجن الجاني؟؟!!، فمثلا شخص ما سُرِقَ منه مبلغ ألف جنيه وهو بحاجة ماسة له، ثم تم حبس الجاني لمدة عام أو أقل أو أكثر فما الفائدة وما العوض الذي سيعود على المجني عليه من جراء سجن الجاني؟؟!! (قمة السفاهة)، ناهيك عن العبارة المضحكة المبكية التي يطلقونها على عقوبة السجن التي تقول: (السجن إصلاح وتأهيل)، والحق إن السجن (تخريب وإهانة لآدمية السجين وتشريد وضياع لأهله وذويه من بعده).


وإن من الخطأ الفادح الذي وقعت فيه البشرية أن جعلت لمعظم الجرائم إن لم تكن كل الجرائم كما في أوروبا عقوبة واحدة هي السجن خاصة بعد إلغاء عقوبة الإعدام، وهذا ليس من العدل في شيء، فالعدالة في العقاب تقتضي أن يكون العقاب من جنس الجرم إن أمكن، أو يتنوع العقاب وفق وزن الجرم، إذ هل من العدل في شيء أن تكون عقوبة المفكر مثلا في دولنا العربية كعقوبة اللص والمرتشي والمحتال والمختلس وتاجر المخدرات والجاسوس والقاتل؟؟!!، ناهيك عن أن السجين يكون في معزل عن عيون الناس مما قد يعرضه ذلك لصنوف شتى من العقاب النفسي والبدني وعدم الاهتمام به كإنسان، ثم إن جنس عقوبة السجن هو الحرمان من الحرية أما جنس الجرائم التي يعاقب عليها بالسجن لا يرقى في معظمها إلى قسوة تلك العقوبة البشعة. وإذا كان القانون قد وُضِعَ لصون أموال الناس وممتلكاتهم وحرماتهم، فقد وضعت عقوبة السجن لقطع المذنبين من الحياة قطعا وحشرهم في قبور تكتظ بالأحياء فترة من الزمن ويتم تشريد ما لا جرم لهم من ذوي المذنبين وأهليهم، بل إن عقوبة السجن تفقد السجين الكثير والكثير من الأشياء النافعة التي فاته الحصول عليها من الحياة وتفوته الكثير والكثير من الفرص أثناء قبره داخل السجن، ناهيك عن أن السجون والسجناء ليسوا سواء، فعلية القوم من لصوص البنوك والفنانين والوزراء والمسئولين وذوي السلطان والجاه لهم سجون سوبر ستار متوفر بها كل رغد الدنيا وزينتها ولهم امتيازات ليست لغيرهم من عامة الشعب والغوغاء والدهماء أمثالنا.


وفي قوانين السجون تفرد العقوبة وفق كل جرم على حدة ففوق سلب حرية السجين وقطعه من الحياة وسلب آدميته فلكل جريمة سجن خاص تنفذ فيه العقوبة وفق فظاعة الجريمة، فكلما كانت الجريمة خطيرة كلما كان السجن الذي ستنفذ فيه أكثر صرامة وقسوة وإذلالا للسجين وامتهانا لكرامته، ويتم تقسيم السجون على أساس التفريق بين الرجال والنساء وصغار السن (الأحداث) وحسب، بينما لم يراعي التقسيم شخصية السجناء ومؤهلاتهم العلمية وميولهم الثقافية وبيئاتهم المنحدرين منها مما يضاعف السجن إلى سجنين سجن العقوبة وسجن معاشرة أناس ليسوا منك ولست منهم، ناهيك عن أن جميع السجون في البلدان العربية والنامية عموما تخضع لوزارات الداخلية مما يزيد من معاناة السجناء وقهرهم وإذلالهم، ولقد ظن أصحاب الفكر العقابي الذين شرعوا تلك العقوبة القذرة للآدميين أن مضمون العقوبة هو سلب الحرية وعزل الجاني عن المجتمع وحسب، وفاتهم أن سلب حرية الإنسان وعزله في مكان ما وراء الحياة يعد مئات بل آلاف من العقوبات المترابطة والمتشابكة والمتداعية والمتكاثرة في كل لحظة للسجين ولذويه طيلة فترة سجنه.


ناهيك عن جرائم التعذيب والتنكيل الوحشية غير الآدمية البشعة التي ترتكب في حق السجناء وخاصة من المعارضين السياسيين وراء جدران الحياة والتي لا يدري أحد عنها شيئا ولا يعلم بها أحد إلا الله، ناهيك عن أن عقوبة السجن من أنسب العقوبات وأشهاها وأوفرها حظوة عند الطغاة والمستبدين والديكتاتوريين، فهي العقوبة الوحيدة التي من خلالها يستطيع كل طاغية ديكتاتور مستبد أن يجد له فيها لونا من الشرعية في استخدامها لإسكات الشعوب وقهرها وإرهابها وقمعها وإخراجها من مسرح الحياة ومن طريق المعارضة له ولحكمه، وذلك عن طريق سن قوانين الطوارئ والحبس الاحتياطي وقرارات التحفظ والاعتقال، ناهيك عن السجون السرية التي لا يعلم بها أحد إلا سجانيها، ناهيك عن حملات الاعتقال التعسفي لمئات وآلاف الأشخاص بحجة الحفاظ على أمن البلد والأمن القومي، ناهيك عن مئات بل آلاف الأبرياء الذين يسجنون ظلما في أي أحداث شغب أو اعتصام أو إضراب أو محاولات انقلاب لمجرد الاشتباه أو الشكاوى الكيدية فيمضون سنين طويلة من أعمارهم وراء جدران الحياة بسبب أحداث لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وما العقوبة التي تعين كل طاغية مستبد على فعل كل هذا سوى عقوبة السجن القذرة.


## عدم صلاحية عقوبة السجن للآدميين :


عقوبة السجن من أبشع وأحط العقوبات التي استخدمها الجنس البشري في تاريخه كله لعقاب الفرد المذنب، بل إن عقوبة السجن أبشع وأحط من أي جرم يمكن أن يرتكبه إنسان بحق أخيه الإنسان، فالمذنب يخلع على أعتاب السجن أول ما يخلع آدميته وكرامته واختياره وحريته وحياته، فالسجن ليس عقوبة واحدة كما يخال للبعض إنما السجن مئات بل آلاف من العقوبات والجرائم النفسية والجسدية والاجتماعية التي تُرْتَكَبْ في حق المذنب وأهله وذويه والمجتمع كله في مقابل جرم واحد فعله أو عدد قليل من الجرائم، فعقوبة السجن تخلو تماما من أي عدالة في العقاب نسبة إلى أي جرم قد يرتكبه أي مذنب. فالسجن مقبرة للآدميين الأحياء، بل إن مقبرة الآدميين الموتى لهي أكثر كرامة وعزة وصونا وشرفا وأمنا وراحة وسعة وأنسا على ضيقها وظلمتها ووحشتها من مقبرة الآدميين الأحياء.


فحين تطأ قدم الإنسان السجن وتخطو أولى خطواتها نحو اللاحياة يحرم السجين ليس من حريته وحسب بل يحرم من الحياة بكل ما فيها من متع وملاذ وتبدأ رحلة اللاحياة في شكل حياة كاذبة مهينة، وتنهال عليه في كل لحظة وفي كل حين عقوبة جديدة حتى اللحظة الأخيرة في مدة سجنه، فيجد السجين نفسه في قبر مكتظ ببقايا حياة حيث لا خصوصية ولا ستر ولا خلوة وتصبح حركاته وسكناته ونومه ويقظته وقيامه وقعوده ساحة مباحة منتهكة من كل ناظر، وكلماته وآهاته ودقات قلبه وصوت أنفاسه ساحة مباحة منتهكة من كل أذن صاغية، فاكتظاظ السجون والزنازين بالآدميين عقوبة بمفردها، وحرمان السجين من اتصاله بأهله وأبنائه وزوجه وإخوانه وأصدقائه وجيرانه وزملائه وبقية البشر عقوبة بمفردها، وحرمان السجين من متابعة أبنائه وتربيتهم عقوبة بمفردها، وحرمان السجين من مواصلة عمله الذي هو مصدر قوته وقوت أبنائه وذويه عقوبة بمفردها، وحرمان السجين من مشاركة بني جنسه في أن يكون له دور وبصمة في الحياة عقوبة بمفردها، وفرض طعام بعينه على السجين طيلة فترة سجنه عقوبة بمفردها، وفرض لباس بعينه على السجين طيلة فترة سجنه عقوبة بمفردها، واحتقار السجين من قبل سجانيه وإذلاله وازدرائه طيلة فترة سجنه وبعد سجنه عقوبة بمفردها، والإهمال الصحي والعلاجي للسجين عقوبة بمفردها، وإجبار السجين على ممارسة مهنة الطهي والغسل وتنظيف الزنازين والمراحيض بغية الإهانة والإذلال عقوبة بمفردها، والاعتداءات المتكررة على السجين فيما يسمى بحفلات الاستقبال عقوبة بمفردها، وتشغيل السجين في مهن شاقة وقاسية كتكسير الأحجار وحمل الأثقال وغيرها من الأشغال الشاقة عقوبة بمفردها، وحرمان السجين من ممارسة الجنس مع زوجه طيلة فترة سجنه عقوبة بمفردها، وحرمان السجين من مشاركة أهله وذويه في أفراحهم وعزائهم طيلة فترة سجنه عقوبة بمفردها، وحرمان السجين من الاطلاع على تطورات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عقوبة بمفردها، ومعاناة أسرة السجين النفسية والاقتصادية والاجتماعية طيلة فترة سجنه عقوبة أخرى للسجين ولأسرته، وموت السجين في سجنه بعيدا عن أهله عقوبة بمفردها له ولأهله، وموت أحد أقرباء السجين أو عدد منهم أثناء فترة سجنه وحرمانه من تشييعه وتقبل العزاء فيه عقوبة بمفردها، وحرمانه من حضور زواج أحد أبنائه أو أحد أفراد عائلته عقوبة بمفردها.

أما أحوال النساء السجينات وخاصة الأمهات منهن فسينزف القلم ألما ولن تطيعني يدي في الكتابة عنهن وعن معاناة أبنائهن وسأترك للقارئ أن يتذوق بخياله مدى قسوة ومرارة وبشاعة وانحطاط عقوبة سجن النساء وخاصة الأمهات.

ولو أخذت أعدد وأحصي ما يحويه السجن من عقوبات لن يكفيني عشر مجلدات، فهل من العدالة في شيء إنزال مثل تلك العقوبة اللعينة متعددة العقوبات بشخص ارتكب جرما واحدا أو أكثر قد سبب ذلك الجرم إيلاما واحدا في جهة واحدة لشخص واحد هل في ذلك مثقال ذرة من العدالة؟؟.


## ما العمل؟؟ :


أولا: أناشد جميع منظمات المجتمع المدني وخاصة منظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية ونقابات المحامين واتحاد المحامين وكليات الحقوق والمراكز البحثية ومراكز البحوث الاجتماعية والجنائية ووزارات العدل في جميع أنحاء العالم وكل آدمي حر يحمل بين جنبيه شيئا من بقايا الإنسانية أن يساهم بكل ما يستطيع في المطالبة بإلغاء عقوبة السجن واعتبارها عقوبة ضد الإنسانية وغير لائقة لعقاب الجنس البشري، واستبدالها بعقوبات أخرى أكثر عدالة وإنصافا وسرعة للمعتدين والمعتدى عليهم.


ثانيا: أطالب جميع وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة كالصحف والمجلات والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت الفكرية والعلمية والثقافية والقانونية والدينية والسياسية والحقوقية والاجتماعية بإجراء استفتاءات حول مدى صلاحية عقوبة السجن للجنس البشري، وإقامة حملات تضامنية حول إلغاء عقوبة السجن واستبدالها بعقوبات أخرى مناسبة وأكثر إنسانية وعدالة وكرامة وحياة للجاني والمجني عليه، وأخص بالذكر موقع الحوار المتمدن لما له من شعبية كبيرة بين جمهور الانترنت، ولسبقه في تنظيم الحملات التضامنية.


ثالثا: أهيب بكل الإعلاميين والصحافيين والكتاب والمثقفين والمفكرين والمتخصصين في علم العقاب بتكثيف المقالات والأبحاث والدراسات حول عقوبة السجن وأضرارها ومفاسدها على الإنسان قبل السجن وأثناءه وبعده، واختبار مدى صلاحيتها لعقاب الجنس البشري.


رابعا: أهيب بكل المتخصصين في علم العقاب وكل المفكرين والباحثين بأن ينذروا أنفسهم لإعادة النظر والتقييم في المنظومات العقابية الحالية والفكر العقابي الحالي، ومحاولة وضع فكر عقابي جديد أكثر عدالة وكرامة وصونا لآدمية وحقوق الجاني والمجني عليه، وإيجاد عقوبات بديلة لعقوبة السجن، وهو أمر يسير على الإنسان الذي تمكن من الإبداع والابتكار في كل شيء، فلن يعجز في إيجاد عقوبات بديلة أكثر إنسانية وعدالة وكرامة إن هو أراد ذلك وعمد إليه.


خامسا: عقد ندوات تضم نخبة من المتخصصين في شتى المجالات ذات الصلة لمناقشة هذه القضية من كافة جوانبها القانونية والأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والدينية وتقديم أوراق عمل بها عددا من التوصيات الهامة بشأن تلك العقوبة.


سادسا: تحفيز همم الجماهير المختلفة إلى الاهتمام بمثل تلك القضية الهامة عبر برامج التلفاز المختلفة وعبر مواقع الإنترنت للإدلاء بآرائهم وتعليقاتهم وأفكارهم حول تقييم تلك العقوبة وإيجاد البديل لها.


وفي ختام مقالي لا يسعني إلا أن أقول: (إن الفكر العقابي الذي قنن عقوبة السجن هو فكر منحط غير آدمي يجب تجريمه).

الهوامش :
مبادئ علم العقاب ، د.نور الدين هنداوي ، دار الكتب ، ص154 .
دروس في علم العقاب ، د. محمد مصباح القاضي ، دار الأرقم ، ص162 .
مبادئ علم العقاب ، د. نور الدين هنداوي ، دار الكتب ، ص154 .
المصدر السابق ، ص170 .
نفس المصدر السابق .
مذكرات في علم العقاب ، د. نور الدين هنداوي ، جامعة الكويت ، ص114 .
علم العقاب ، ط1 ، د . أسامة قايد ، دار النهضة العربية ، ص99 .
علم العقاب ، د.أسامة قايد ، ط1 ، دار النهضة العربية ، ص100 .
نفس المصدر السابق .
علم العقاب ، د. أسامة قايد ، ط1 ، دار النهضة العربية ، ص102 .
علم العقاب ، د. أسامة قايد ، ط1 ، دار النهضة العربية ، ص102 .
مبادئ علم العقاب ، د. نور الدين هنداوي ، دار الكتب ، ص191 ، 1996 م.
مبادئ علم العقاب ، د . نور الدين هنداوي ، دار الكتب ، 1996 ، ص192 .
مبادئ علم العقاب ، د.نور الدين هنداوي ، دار الكتب ، 1996 م ، ص 194 .

بين الله والرسول


بين الله والرسول

يحاول أصحاب الوحي الموازي من سدنة الموروث الحديثي أن يفرضوا ما اختلقوا أغلبه على أنّه هو قول الرسول و يمعنوا في إعلاء هذا الموروث بوسمه رسولا يكمل القرءان و يبين مبهمه و يوضح خاصه !!!!! بل و يخرجون من القرءان ءايات تأمر بطاعة الرسول لبيان ضرورة إتباع هذا الموروث ومع أنّهم مختلفون في صحة هذا الموروث و نسبته لشخص النبي البشري محمد إلاّ أنهم يمعنون في الإتكاء على ءايات القرءان لبيان وجاهة رأيهم . و كل قارئ للقرءان يدرك أنّه يقول عن نفسه أنّه كامل محكم مفصلة ءاياته و أنّه تنزيل للكتاب و محيط بموضوعه لكن ضراوة دعاية أصحاب الوحي الموازي تؤثر على أكثر الناس عقلانية في قبول الأراء و الفرضيات و سبب هذا التأثير في الناس يعود إلى عدم تفريقهم بين الرسول و المرسَل و لم يعوا أنّ حامل الرسالة مرسل و الرسول باق بعد وفاة المرسل فالرسول متجدد برسالاته المودعة فيه ينتظر توليدها كلّما تجمعت شروط التوليد أمّا المرسل فهو مستودع حي للرسول تنتهي مهمته كفرد عند موته و في هذا البحث محاولة لإزالة اللبس عن هذه القضية الخطيرة.

أصحاب الوحي الموازي يبرروا ضرورة الإلتزام و التصديق بالمختلق بعبارة "طاعة الرسول" التي نص عليها القرءان و مع أنّ لفظ الطاعة نفسه هو اللين في قبول الأمر و عدم رفضه إبتداءا فإنّ التلموديين ، جماعة الوحي الموازي ،جعلوا من الطاعة عنوانا للإلتزام الآلي و إن لم يقتنع الإنسان و في هذا إجحاف و ظلم و تجاوز. فالقرءان لا يوجب في نصه الخضوع الإكراهي لأمر دون فهم و إقتناع بل و يصف من لا يعقل الأمر بأنّه "شر الدواب" و عودا لكلام كررناه مرارا و سنعيده هنا أنّ طاعة الله هي اللين في معرفة السنن و التعامل معها فالله هو عنوان النظام في الكون و طاعة الرسول هو اللين في معرفة مدلول الكلام الرسالي سواءا كان هذا الكلام كتابا من توراة و قرءان أو خطابا صيغ بأسلوب البشر. و في الرسول الكتاب توراة و قرءانا لا يمكن أن يتناقض الله مع الرسول فطاعة الله لا يمكنها إلا أن تؤدي لطاعة الرسول ، فكشف السنن يجعلنا نرى القرءان أكثر شفافية في بيانه و نقرأه بالمنهج الصحيح و كشف السنن يجعلنا نلين في قبول الرسالة و التريث في معرفة دليل الأيات التي لم يصل سقفنا المعرفي للإحاطة بتفاصيلها.

طاعة الرسول ليست إتباعا لأخبار رويت بل هي لين في قبول ءايات الكتاب الرسول لدراستها و عدم رفضها إبتداءا فالمرسَل حمل رسولا و هو مستودعه الحي و لكنّ الرسول موّجه كذلك إليه فالمرسل أشبه بساعي بريد أوصل إلى المدينة خبرا مكتوبا يخص جميع ساكني المدينة بما فيهم هو ذاته و هذا المرسل يؤكد أنّ خبره ليس إفتراءا من عنده و أنّ في الخبر دليل براءته من الإفتراء و مصداق براءته بما يحمله هذا الخبر من إيحاءات يستحيل إختلاقها من المرسَل. بل إنّ المرسل نفسه عاجز مثلهم عن إخراج قروء الرسول و مهمته فقط إيصاله. و لندخل الموضوع من بابه الأول بإستعراض التعابير الرسولية في ربط طاعة الله بطاعة الرسول :

" أطيعوا الله و الرسول"
"أطيعوا الله و رسوله"
"أطيعوا الله و أطيعوا الرسول"


يغيب في القرءان غيابا تاما أداة الفصل بين الله و الرسول "أو" فلا وجود لعبارات من قبيل "أطيعوا الله أو الرسول" فطاعة الله متقاطعة بطاعة الرسول و يجب هنا من التنبيه لقضية كنّا أشرنا عليها عدّة مرات و هي أنّ عبارة "الله و رسوله" تشير إلى مفرد و ليس إلى مثنى يضع الله طرفا و الرسول طرفا ثاني و لنقرأ بلاغات الرسول:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ" الأنفال :20
"يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ " التوبة :62
"وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ " النور :48
"إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)" الفتح


هذه البلاغات القرءانية و غيرها ممّا يستطيع القارئ بحثه في القرءان تدّل تأكيدا أنّ عبارة "الله و رسوله" تدل على مفرد، فألفاظ "عنه" و "يرضوه" و "يحكم" و عبارة " تعزروه و توقروه و تسبحوه" تضعنا أمام هذه الحقيقة. و عبارة كهذه تحمل لفظين منفصلين لا يمكنها أن تدل على مفرد إلاّ إذا كان أحدها مرادفا للأخر من حيث الدلالة و ليس من حيث الماهية و هذا ما جعلنا نقول أنّ الله هو عنوان الكتاب الكوني بما يحمله من سنن و أنّ الرسول هو إسقاط للكتاب في صحيفة، فالرسول هو مبعوث الكتاب ليشرحه و يهدي الناس لمعرفته و جاءت الهاء لتبين أنّ الرسول من نفس الله و ليس خارجا عنه في هذه الأيات. فكلّما ورد لفظ الله في القرءان لا بدّ أن تتجه أبصارنا إلى سنّة كونية موضوعية و كلّما ورد لفظ الرسول اتجهت أبصارنا إلى القرءان و عبارة "الله و رسوله" تعبر عن تطابق الله و رسوله في دلالتهما فهما مفرد من حيث أن الخط لا ينقطع بين الله و الرسول فثنائية "الله ـ الرسول" تحوي سلسلة لا يزول فيها الكلام و لا يغير و لا يعدل . و ليس صحيحا أنّ الرسول تعبير عن شخص النبي محمد إذ في هذا الكلام تجاوز كبير أن يربط فرد بالله و لم نجد في القرءان "الله و إبراهيم" و لا "الله و عيسى" و لا "الله ومحمد" و مثل هذه الثنائيات إدخال للبشر في حدود التأليه. فالله في القرءان عنوان السنن الناظمة للكون و لا يمكن أن يكون لمخلوق التقاطع معه.

إذا قررنا أن ثنائية "الله و رسوله" مفرد فعلينا أن نتساءل عن مجيء العبارات الأخرى في القرءان فعبارات " أطيعوا الله و الرسول" و " أطيعوا الله و أطيعوا الرسول" تشير إلى كسر الإفراد لتجعل من "الله" و "الرسول" دلالات مستقلة. وقبل أن نبدأ في التفصيل علينا أن نحاول فهم زيادة الهاء في لفظ الرسول في عبارة "أطيعوا الله و رسوله" بدل "أطيعوا الله و الرسول".

الهاء تشير إلى إحتواء ما تعود إليه أي أنّ الرسول أرسله الله و هذا بيان أنّ الرسالة جاءت لإحداث النظام السنني في السير الإنساني حتّى لا يختل التوازن و نضيع مهمتنا ووظيفتنا الأساسية فـ "رسوله" تدل أنّ الرسالة هي نظام كنظام سنن الكون و في هذه العبارة بيان أنّ كل ما يضر السير الإنساني و يعيق نظامه ليس من الرسالة مطلقا و هذا التنبيه ضروري لمن يقرأ حتّى إذا التبس عليه فهم بعض بلاغات الرسول وجب أن يلجأ لما فيه صلاح الناس و يترك قراءته جانبا ليحاول الغوص في بنية القرءان علّه يكشف أخطاءه. و ليس الصلاح هوى يتبعه الفرد و الجماعة لبسط سيطرتهم على الأخرين و إنّما الصلاح مرتبط بصلاح الجمع كما أنّ السنن الكونية تسيّر جميع الموجودات . فثنائية "الله و رسوله" تشير إلى كل هذا و تضع قاعدة أساسية في قراءتنا للرسالة و هي أنّها تهدف إلى تنظيم سير المجتمع حتّى يصلّي كل جزء فيه على الأخر دون أن تدب الفوضى أو تعم . و أمّا عبارة "الله و الرسول" المحذوفة الهاء فهي تشير أنّ "الله " و الرسول" لا يختلفان فأي وجود لتناقض بين كشف علمي أو كوني لا يمكنه أن يكون واقعا إلاّ بنقض الرسول فالقرءان يقول أن لا وجود لهذا التناقض و يتحدى البطلان . فالعبارة ترسم جدلية الكتاب السنني "الله" و تنزيله "الرسول" و تقول لنا أنّ كشف السنن الكونية و معرفتها هي نفسها كشف الحقائق القرءانية و معرفتها فقولنا "أطع زيدا و عمرو" ينفي أن يكون ما يقوله زيد مناقض لما يقوله عمرو فكلاهما يقول نفس الشيء و طاعتك لزيد يمكنها أن تكفي لإحداث معنى الطاعة و لكن سماعك لعمرو تأكيد لفهمك لما قال زيد لتكن طاعتك بشاهدين و هذه الجدلية ضرورية لإستقرارنا الداخلي أو ما يسميه القرءان بالإيمان فأن نتعامل مع الكون دون رسول أشبه بجالس في ظلمة لا يدري أين البداية و المنتهى و تعاملنا مع الرسول دون النظر في الكون و الدليل الموضوعي التجريبي أشبه بدون كيشوت و هو يحارب مروحة الهواء ظانا أنّها الفارس المغوار. و الإنسانية لا تستطيع أن تحدث التوافق التام بين الله "سنن الكون" و الرسول "القرءان" إلاّ بهذه الواو التي بينهما التي تشير إلى الضم و الرص المتواصل و لو لاحظ القارئ صحيفة القرءان لرأى هذا الشيء العجيب في رسمه و هو مجيء رمز واو صغيرة بعد لفظ "رسوله" كلّما وردت عبارة "أطيعوا الله و رسوله:

الأنفال : 1 ؛ 20 ؛ 46 ـ المجادلة : 13

مثل هذا الرمز يؤكد ما قلناه مرارا أنّ الرسم القرءاني ليس عبثيا و أنّ هذه الواو الرمز تؤكد أنّ "الله و رسوله" مفرد عندما نصل إلى إحداث التطابق و لكنّ الطريق طويل مستمر بإضافة الأجزاء إلى بعضها من كشف علمي كوني يضم الجانب العلمي البحت أو الجانب الإجتماعي و النفسي ، فالواو الرمز ترسم الإضافات المتتالية لتستقر قناعة الإنسان بأنّ ما في الرسول هو لهدايته إلى الله و ليس لإحداث البلبلة في نفسه و تعميق الشكوك . فالرسالة ليست وظيفتها تقديم الوصفات و لا إصدار التشريعات بل وظيفتها تعريف الإنسان و هدايته للحق الكوني بتفتيق نفخ الروح فيه فهي كتاب معقد و لكن هذا التعقيد ضروري ليعرّف الإنسان بمكنونات نفخ الروح فيه و نرى في منظومتنا التعليمية بعضا من هذا عند الأساتذة البارعين ممن لا يعطي الحلول للإشكالات بل يدفع الطالب لإخراج الحل بنفسه و زيادة التعقيد في كل مرحلة كي يتم بناء عقل الطالب ليجعل منه باحثا و ليس حافظا مكررا.

لنقرأ بلاغ الرسول في سورة النساء لنرى التطابق بين طاعة الرسول و طاعة الله و أن طاعة الله باللين في معرفة سنن الكون و الصبر على كشفها و معرفة حدود إستعمالها هي نفسها طاعة الرسول :

" أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (79) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)" النساء

هذه الأيات محيرة و يظهر أنّها حاملة للتناقض في ظاهر عباراتها و عهدنا بالقرءان أنّ ما يظهر متناقضا فيه هو مفتاح لكشف بعضا من بنيته فلنمض مع الأيات طائعين.

"إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله ، و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ؛ قل كل من عند الله، فمال لهؤلاء القومـ لا يكادون يفقهون حديثا"

توبيخ كبير لمن لا يفقه الحديث ممن عجز على ربط أجزاء الكلام. فالأية تقول أنّ الحسنة و السيئة من عند الله و لكن المشكلة هي الأية التي تليها :

"مآ أصابك من حسنة فمن الله ، و مآ أصابك من سيئة فمن نفسك ؛ و أرسلناك للناس رسولا ؛ و كفى بالله شهيد"

و كأنّ من صاغ القرءان يعلم أنّ الكثيرين سيفهمون أنّ الأية متناقضة و لذلك أردف " و أرسلناك للناس رسولا ؛ و كفى بالله شهيدا" ليعبرّ عن حياد الصحيفة و أنّها لا تستحق التمزيق و ليعبر القرءان في حياة المرسل نبي الهدى محمد أنّه مكلف بتبليغ الرسول و لا يسعه إلاّ هذا و إن لم يقتنع هو شخصيا بما تخطه يداه. الأمر إذن ملتبس فالحسنة من الله و السيئة من نفسك !!!!
إنّ السنن الكونية جارية على الجميع و هي عند البعض حسنة و عند البعض سيئة فالموت سنة و هو حسنة لمن ينتظر الميراث و سيئة لمن فقد المعيل و لذلك فالأية الأولى غاب فيها أداة "مِن" و أتت عبارات "إن تصبهم حسنة/ إن تصبهم سيئة" . أمّا الحسنة و السيئة الأتية من أعمال الإنسان في تفاعله مع المحيط كفرد فهي من مسؤوليته الخاصة فحتى لا يصيب الإنسان السيئة عليه أن يفقه جيدّأ السنن الكونية و الإجتماعية ليعرفها و يتجنب السيئة و أمّا إذا جهلها و أو تناساها أو أراد تجاوزها فسيقع "و ما أصابك من سيئة فمن نفسك" و إن فقهها و تعامل معها مراعيا الحدود فلن تصله .


الرسول مهمته التبليغ أي أنّ محتوى الصحيفة هو محتواها حتّى و إن ظن القارئ خطأ ما فيها و تناقض أجزاءها و الله هو الشهيد أي أنّ السنن الكونية هي من يشهد على عدم تناقض الرسول و الرسول نفسه يؤكد :

"من يطع الرسول فقد أطاع الله"

فاليد التي تخرج الطاعة من محتوى الرسول لا بد و أنّها أطاعت الله ، فلا طاعة للرسول دون بحث السنن و كشف حقائق الكون و عبثا يحاول الناس فصل الرسول عن الله و من يبحث عن غير الله ليطيع الرسول فليسمع من الرسول :

"و من توّلى فما أرسلناك عليهم حفيظا"

و نجد في القرءان دقة في وسم بعض الرسل بالكتاب ة تحديدا ما أوتيه النبي الكريم موسى و النبي الكريم محمد و ليس كل رسول كتابا فعيسى رسول بما يحمله من ءايات و ببشراه و إنجيله و لنقرأ قول الرسول :

" وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جآءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى ، أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ ، قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمـْ صَادِقِينَ (49) فَإِن لَّمـْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ ؛ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ؛ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)" القصص

الرسول ءايات بالضرورة في صحيفة أو في واقع الناس . فالصحيفة رسول و رسالة تحتاج إلى من يفتق رحمها ليخرج الرسول فهي تحمله كمونا و هذا الرسول هو الأيات نفسها مرسومة في صحيفة و الأيات هنا لا تقول "قل فأتوا برسول من عند الله هو أهدى منهما" بل استبدلت الرسول بالكتاب لتدل أنّ المقصود ليست الأيات الكونية بل صحيفة التوراة و صحيفة القرءان و هذه الأية تحديدا تشير أنّ هناك كتابين صحيفتين في هذا الكون لا ثالث لهما هما التوراة و القرءان. و حتّى ينتهي الجدل في دليل الرسول تورد سورة الشورى القول البلاغات التالية :

" وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (53)" الشورى

إنّ الكلام يصلنا من الله بطرق ثلاث :

1 ـ وحي : بما يشير المحيط بما يحمله من أشياء إلى وجود علاقات و روابط بينها للمتلقي و تفعل هذه الظواهر فعل التأثير الفكري أو العاطفي لتُنشأ في المتلقي الإثارة للوصول إلى العلاقات بين هذه الأشياء فالذي يرى ظاهرة كسوف الشمس و إختلاف ضوء القمر يستنتج أنّ هذا الجرم يتحرك أو أنّ الأرض تتحرك حوله و هذا هو الوحي و به نصل إلى كلام الله أي السنة النظامية لهذه الظاهرة و قد توصلت الإنسانية إلى معرفة حركة القمر حول الأرض و حركة الأرض قبل أن تخرج إلى السدير بالوحي وصلت إلى كلام الله

2 ـ من وراء حجاب : من وراء ستار غير مرئي لنا كأن تصلنا المعلومات من مخلوقات تعيش في عالم ذو أبعاد يتجاوز أبعادنا و لنفترض أنّنا نريد أن نوصل معلومات لمخلوقات تعيش في بعدين فسنبقى نوصلها من وراء حجاب إذ يستحيل أن تعرف هذه الكائنات ماهيتنا إلاّ إستقراءا.

3 ـ رسولا : صحيفة أو ءاية من منظومتنا التي يمكننا إبصارها مباشرة .
و الصحيفة القرءانية هي وحي أرسلت في أشياء كوننا كما سبق بيانه في بحث الصيام و من وراء حجاب أي من صائغ ماهيته مرتفعة عنّا و بلغتنا رسولا نقرأه في صحيفة و هذه الصحيفة تهدي إلى السنن الكونية "صراط الله" لنصل إلى العلو المنشود.


سندخل الأن بشيء من العمق في مفهوم لفظ الرسول من حيث جذره كي نبين بعضا من معانيه. الجذر العربي (ر س ل ) في القرءان يدل على تكليف وسيط بنقل كلام. و الكلام ليس تعبيرا شفهيا بل كما سبق الإشارة إليه مرار أنّه يعبر عمّا نسميه Information

"قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)" الأعراف

إن مهمة المرسل هنا هي البحث عن مختصين في السحر بتجميع الناس و حشرهم لإعلان رغبة فرعون و لكل مرسل طريقته في البحث و الحديث مع الناس لكن الهدف الأساسي من الرسالة هو الإيتاء بالسحرة.

" أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)" يوسف

لم يكن ليوسف ليذهب مع إخوته من تلقاء نفسه بل بأمر من يعقوب فذهابه معهم يعني إذن أبيه له بمصاحبتهم فهي ذريعة للإخوة كي لا يُتهّموا بعدها بالخطف أو التآمر.

" فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ " يوسف :31
" وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ" يوسف :45

و يمكن للقارئ أن يواصل في إستقراء مفهوم الجذر (رس ل ) في القرءان بنفسه ليحكم على صواب ما ذهبنا إليه و نرى أنّ ما يؤكد هذا المفهوم هو تنوّع الرسل في القرءان من :

"الملائكة" الحج :75 ـ فاطر:1
"الناس" الحج:75
"السماء" هود :52
"رجزا من السماء" الأعراف :162
"الصواعق" الرعد:13
"الأيات" الإسراء :59
"حاصب" الإسراء: 68 ـ العنكبوت:40 ـ القمر:34 ـ الملك :17
"قاصفا من الريح" الإسراء :69
"حسبانا من السماء" الكهف :40
"روحنا" مريم :17
"الشياطين" مريم :83
"الريح / الرياح" الفرقان:48 ـ النمل:63 ـ الروم :46 ؛48 ؛ 51 ـ الأحزاب:9 ـ فاطر :9 ـ فصلت:16 ـ الذاريات:41 ـ القمر :19
"سيل العرم" سبأ :16
"الأنفس" الزمر :42
"حجارة من طين" الذاريات :33
"الناقة" القمر :27
"صيحة" القمر: 31
"شواظ" الرحمان:35


كل هاته الرسل ليست عقابا من الله مباشرا لفعل ارتكبه قوم فسخط عليهم فتحركت فجأة قدرته لإصدار حكم العقاب و عطل السنن الكونية و قام بالتنفيذ الفوري بل الرسل تنقل كلاما لمن يسمع كلامها و يحسن فهمه و كل ما في الوجود وحي و يصبح رسالة عندما يخترق الروتين فالزلازل رسالة للناس لكشف باطن الأرض و دراسة طبقاتها ليس فقط ليحموا أنفسهم منها بل لتربو معرفتهم بكيفية صنع الحياة في الكواكب الأخرى و بإختيار الكواكب الممكنة لإستقبال الحياة فيها و الناس ترى في الزلازل مأساة و هي كذلك عندما نتعامل معها كهمج يفرّون بدل من تركيز إهتمامنا على فهم آلياتها للإستفادة منها في وظيفتنا الخلافية فالرسول ينبئنا أنّ رحمة الله وسعتنا و بالرحمة نزل الرسول ليؤمننا و ينشر الطمأنينة علينا لتهدأ ذواتنا و تباشر مهمتها. و تأتي الكوارث منبئة على حجم الإهمال في سيرنا الحضاري و تمادينا في التجاهل للسنن و ظلمنا في الرقابة و المحافظة و الصلواة كما قصت سورة سبأ حدث السيل العرم
Dam break و ينقلنا القرءان إلى جوانب الرسل الكونية المتنوعة من :


الصيحة : الزلزال المدمر بتعبيرنا ـ الحاصب : نيزك ـ شواظ : سائل بركاني ـ الريح : إعصار ....الخ

لينبهنا أنّها رسل تحمل الكلمات فندرسها جيّدا قبل أن تدمرنا و في دراستها ربا لمعرفتنا الكونية و في فك كلامها إضطلاع بمهمتنا الخلافية و لا شك أنّ القارئ يتصور الأيات القرءانية محصورة في تاريخ الأمم السالفة و أنّ القرءان قصّ ما حدث من كوارث سابقة لأمم خلت و هو في هذا مخطئ جدّا إذ القرءان رسول للعالمين و قراءته دائما مستقبلية و تلبس بعض ءاياته بالتاريخ وهم بصري سرعان ما ينفك عندما يغوص القارئ في مفاهيمه الكونية و لا يبقى حبيس المعاجم و القواميس. و على الإنسان أن يتعامل مع الوحي الكوني كرسالة ليخرج منها الكلام و لا يتعامل معها كعقاب إلاّ إذ ظنّ أنه مستحق له بفعل إجرامه و تجاوزه.

بعد أن أرسينا مفهوم الجذر (رس ل ) و بيّنا أنّ الإرسال لا يختص فقط ببشر سندخل لفارق مهم بين لفظين جعلهما الأسلاف مترادفين و هما لفظ "رسول" و لفظ "مرسل" لنرى دقّة القرءان في هندسة ألفاظه.

المرسل هو الكائن الحي الظاهر الحامل للرسول و الرسول هو مستودع الكلام الحامل لأجزائه و الرسالة هي الرسول المنتظر لفتح مكنونه و محتواه بتوفير شروط خروج هذا المحتوى للوجود و توّلده و لا بد أن نشير هنا أنّ الرسالة القرءانية متولدة في كل حين فتاؤها تأتي دائما منفتحة "رسالته / رسالات / رسالاته/ رسالاتى ". فالميم في "مرسَل" كما سبق و أشرنا إليه في موضوع "حفريات في كتاب الميم القرءاني" متعلقة بمفهوم الحياة و فتحة السين في "مرسَل" دالة على الظهور في مقابل الكسر الدال على الخفاء "مرسِلة :النمل 35". و لنرى الأن هل يتسق هذا الكلام مع بلاغات الرسول التي وردت فيها ألفاظ "رسول" "مرسل" و "رسالة".
المرسل و المرسلين حامل حي للرسالة و لنقرأ قول الرسول :


" وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا" الفرقان :20

و تأتي بلاغات سورة يس لتجعلنا نطمئن لما ذهبنا إليه :

" وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (17)" يس

ها هم قوم صالح يخاطبونه قولا مرسلهم و يتحدوه :

" فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ "

و نجد في سورة الشعراء بيانا للفرق بين الرسول و المرسل :

" كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) .... كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) ..... كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) ..... كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) ..... كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) ...."

و نجد سلسلة المرسلين تترى في سورة الصافات :

" وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (123) .... وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) ... وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) ... سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)"

فالسلام يُلقى على و للأحياء و المرسلين أحياء في كل زمن و كل مرسل في القرءان إسم و ليس لقب يمثله سيره و خصوصياته و فحوى رسالته التي يحملها . لا ينبغي أن نتيه في قراءة الأيات بالتركيز على معنى وحيد للرسول و حصره في شخص النبي و هو حي مستودع في قلبه للتنزيل أو في الصحيفة بعد وفاته بل علينا أن نسير دائما بالمفهوم لنرسم الإحكام في الأية بما يمليه سياقها و نبدأ رحلتنا بالبلاغات القرءانية من قول الرسول :

"وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ " يوسف:50

الأية تركز هنا على الرسالة و تتناسى عمدا حاملها الحي "المرسل" لتشير بهندستها إلى التغيير الكبير في هيئة السجين القديم و كأنّ يوسف لم يعرفه أو كأن الشخص نفسه أخفى هويته القديمة عمدا ليفر من لوم يوسف له لنسيانه ذكر قضيته عند ربّه. فالمهم هو الرسول مستودع الرسالة و المهم هو محتواها. لنقرأ قول الرسول :

"أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ ؛ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَآءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ !! وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُـ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)" النساء

القرءان وجهته دائما للمستقبل و لا يمكن لنا إلاّ أن نتدبره أي نسير دبره كي يهدينا إلى الوجهة الصحيحة و هذا التتبع تحقيق لإنتفاء التناقض "الإختلاف" بين القرءان و السنن المبوثة في الكون لمعرفتها "الله " و أقف هنا لحظة في عبارة "إختلافا كثيرا" لأهميتها في منهجية قراءة القرءان. فنفي الإختلاف الكثير لا يعني غياب الإختلاف و كأنّها شهادة بوجود بعض التناقض القليل في القرءان . و عندما يجد القارئ مثل هاته الإشكالات في ءايات القرءان فليوقن أنّ وراءها كشف و ليمعن البحث و التنقيب فوراء ما يظهر لأول تناقضا أمر خطير. لندقق إذن القراءة . لفظ "إختلافا" لم يرد إلاّ مرّة واحدة في القرءان !!!!! هل هذه صدفة ؟ إنّ ءاية النساء 82 تؤكد أنّ القرءان ليس من صياغة النبي الكريم إذ كيف به يستطيع أن يضبط نفسه ذهابا و إيابا في النص و قومه ليست لهم ثقافة الكتاب أن يغامر في هذا المنحى ؟ ورود لفظ "إختلافا" مرّة واحدة في القرءان دليل أنّه لا إختلاف فيه و لذلك نفهم سبب إيراد لفظ "كثيرا" في هذا البلاغ.

لنعد لموضوعنا الأصلي. فالقرءان ينتظر تدبره لتخرج قروءه بالكشف المستقبلي و في نسخته أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ممن تخرج سرّها لمجرد إثارتها بالخبر الإشاعة وكان الواجب حفظ أمر الأمن أو الخوف الذي سربته و أخبرت به السلطات الحافظة لأمن البلد من أعداءه الخارجيين. فالرسول هنا هو نسخة القرءان إذ هي مستودع رسالته وهي تدعو مجتمع الذين ءامنوا إلى سلوك الممانعة مع العدو و سياسة التمويه و أن لا يتغلب علينا "الوهم" فنجعل من العدو صديقا و نرمي إليه بالأسرار و كل من يغامر في هذا الإتجاه فسيكتشف وهمه.

و سنسير مع القرءان على أنّه خطاب للناس جميعا ممن استقبلهم بخطابه منذ نزوله و نقرأ قول الرسول :

"قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" الأعراف :158

رسول الله موّجه إلى الناس جميعا و غايته إحداث التأمين الذاتي في الفرد و دفعه إلى تأمين الأخرين بمفرد "الله و رسوله" كما سبق بيانه. هذا المفرد "الله و رسوله" هو النبي بما يلقيه من أنباء و هو جامع لكل من له أم "أمى" أو بتعبيرنا أممي بالمعنى الواسع لا يفلت من هديه أحد في هذا الكون.

" إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)" النور

التواجد في صلواة الجمعة و في الأمر الجامع مسؤولية و ليست ترفا فكريا أو إجتماعيا لأنّ غاية الإجتماع مع الأخر هي الإستفادة منه و حل المشاكل العالقة معه ليصل الجمع إلى الإيمان و تزول مصادر النزاع و الكفر . و تأتي الأيات لتحل الرباط العضوي بين الله و رسوله لتتوجه بالبيان تعريفا بدليل الرسول و الله. فالتجمع بما يفرزه من قرارات رسول و كل فرد من حاضري الأمر الجامع مستودع لرسالته عليه حفظها و أداءها فدعاء الرسول ليس نداءه و رفع أياديه إلى السماء بل دعاءه هو دعوته كلما دعت الحاجة و هذا الدعاء شهادة حق عندما يدب الخلاف لا يجوز التسلل بـ "لو" و "عسى" و ...و . و إن حدث تسلل و تحلل فليعلم الإنسان أنّ كل ما يفعله مسجل مسطور :

"ألا إنّ لله ما في السماوات و الأرض قد يعلم ما أنتم عليه و يوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا و الله بكل شيء عليم"

و نختم هذه البلاغات عن دليل الرسول بأيات من سورة الفرقان :

" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْءانَ مَهْجُورًا (30)" الفرقان

الرسول شهيد على الظالم إذ لا ظلم في الرسول فسبيله مناقض للظلم و إتخاذ أي سبيل في الرسول يبعد عن الظلم فسبله في الإجتماع و الكشف الكوني كلّه مقدرّة تقديرا لا ظلم فيها و لا تجاوز و لمّا أتى السياق محدثا عن الذكر الذي يبقى و محدثا عن القرءان إيماءا للقروء المبثوتة فيه كان الرسول هو صحيفة التنزيل و حري بنا أن نسمي القرءان رسول عندما يتعلق الأمر بالصحيفة و نسميه قرءانا عندما يتعلق الأمر بقراءته و إخراج قرءوه و إخراجه من الهجر و ذكرا عندما يتعلق الأمر بزوال الوهم عمّا ظنّه الأسلاف و الأخلاف. فالرسول هو من يقول في صيرورته أنّ من أقوم بهم و يقومون بي هجروا قروءي.
إنّ ما نطلق عليه قرءان هو الرسول و في هذا الموضوع يرى القارئ أنّني جعلت الأيات من قول الرسول لينتهي التلاعب الذي طال بفعل تحريف الكلم عن مواضعه ممن جعلوا عبارات النبي الكريم محمد هي قول للرسول في صحائفهم .